مِن القضايا الحساسة ما بين أهل السنة والجماعة فى الهند وخارج الهند: حكم الإستغاثة بالأموات، والذي يهمّنا هنا رأي أكابر علماء ديوبند فيها، وبما أنها كانت من معارك الآراء في ذلك الوقت (ولا يزال)، فإن هؤلاء الأكابر رحمهم الله تعالى أطالوا البحث فيها وبيَّنوا موقفهم بوضوح، حتى إن بعضهم ألفوا رسائل كاملة مستقلة فيها، كالعلامة ظفر أحمد العثماني (١٨٩٢ – ١٩٧٤ م) المشهور – صاحب ((إعلاء السنن)) وغيرها من مصنفات مفيدة – ألف رسالة ((الإرشاد في مسألة الإستمداد)) بالأردوية، وهي في مجموعة مقالاته (مقالات عثماني، ج٢ ص٢٧٥ – ٣٢٨)، والعلامة مرتضى حسن الجاندبوري (١٨٦٨ – ١٩٥١ م) ألف رسالة ((سبيل السداد في مسألة الإستمداد))، وهي رسالة طويلة ردّ فيها على شبهات المخالفين، وهي في مجموعة رسائله باللغة الأردوية.
وقبل أن ندخل في حكم الإستغاثة بالأموات عند أكابر ديوبند، يجب أن نحدّد محل الخلاف، فإن لفظ ((الإستغاثة)) قد تستعمل لمعان مختلفة، فيجب التحرز عما وقع فيه الكثير من الإستدلال على أحد معانيه بما لا يستدل به، بل يستدل به على معنى آخر له.
الإستغاثة بالأموات قد تُستعمل:
١. للتوسل بالذوات بأن يقول أحد: ((اللهم إني أسأل وأتوسل إليك بفلان النبي أو الولي أن تقضي لي حاجة كذا وكذا.))
٢. وقد تستعمل للتبرك بذكر الإسم، كأن يقول أحد: ((يا محمد))، لمحض إظهار الحب والشوق إليه، من غير اعتقاد أن الرسول صلى الله عليه يسمعه مباشرة أو أن قوله هذا يبلغه قطعا.
٣. وقد تستعمل للإستفاضة من صاحب قبر، بأن يجلس صاحب كشف عند القبر ولا يطلب منه شيئا، بل يستفيد منه روحانيةً كما هو مجرَّب عند أصحاب الكشف.
٤. وتستعمل أيضا لطلب الدعاء من صاحب القبر عند الزيارة.
وهذه المعاني لا يخالف جوازها علماء ديوبند، إلا المعنى الرابع فإنهم يعتبرونها محل اختلاف معتبر مبني على الإختلاف الواقع في سماع الموتى. قال العلامة رشيد أحمد الكنكوهي (١٨٢٩ – ١٩٠٥) ما تعريبه: ((وأن يذهب إلى قرب القبر ويقول: يا فلان، ادعو الله تعالى لي أن يقضي الله تعالى حاجة كذا وكذا، فهذا فيه اختلاف بين العلماء، فأما من قال بسماع الموتى فيجوّزونه، وأما من لم يقل به فلا يجوّزونه…نعم، لا خلاف في سماع الأنبياء عليهم السلام، فليسوا بداخلين في هذا الإختلاف.)) (التأليفات الرشيدية مع الفتاوى الرشيدية، ص٦٩) أما بالنسبة للمعنى الثالث قال صاحب ((المهند على المفند)) الذي وقَّع عليه جميع أكابر ديوبند من ذلك الوقت: ((وأما الإستفادة من روحانية المشايخ الأجلة، ووصول الفيوض الباطنة من صدورهم أو قبورهم، فيصح على الطريقة المعروفة في أهلها وخواصها، لا بما هو شائع فى العوام)) (المهند، ص٦٠)
قال العلامة صنع الله الحلبي الحنفي (ت: ١٧٠٨ م)، وهو عالم حنفي عثماني عاش قبل الديوبندية، بل قبل الوهابية، وهو ليس بتيمي بل أوَّل الصفات الخبرية كاليد، وألف رسالة لإنكار عمل الإستغاثة بالأموات مع الاعتقاد أن لهم علما وتصرفات، قال فيها: ((وما قيل من أنه يجوز الإستغاثة بالأنبياء والصالحين فإنما المراد به التبرك بذكرهم والتوسل بهم بلا إمداد منهم)) (سيف الله على من كذب على أولياء الله، ص٤٩ – ٥٠)
وهكذا يُفهم قول الإمام السبكي وغيره من جواز الإستغاثة، إنما المراد به التوسل بالذوات المقدسة لا طلب الحاجة مباشرةً منهم.
قال الشيخ عبد الحق المحدث الدهلوي (١٥٥١ – ١٦٤٢ م) المشهور في شرحه على المشكاة باللغة العربية: ((أما الإستمداد بأهل القبور فقد أنكره بعض الفقهاء، فإن كان الإنكار من جهة أنه لا سماع لهم ولا علم ولا شعور بالزائر وأحواله فقد ثبت بطلانه، وإن كان بسبب أنه لا قدرة لهم ولا تصرف في ذلك الموطن حتى يمدوا، بل هم محبوسون عن ذلك ومشتغلون بما عرض لأنفسهم من المحنة ما شغلهم عمن عداهم فلا يرى ذلك كليا، خصوصا في شأن المتقين الذين هم أولياء الله تعالى، فيمكن أن يحصل لأرواحهم عند الرب تعالى من القرب فى البرزخ والمنزلة والقدرة على الشفاعة والدعاء وطلب الحاجات لزائريهم المتوسلين …وما أدري ما المراد بالإستمداد والإمداد الذي ينفيه المنكر، والذي نفهمه نحن أن الداعي المحتاج الفقير إلى الله يدعو الله ويطلب حاجاته من فضله تعالى ويتوسل بروحانية هذه العبد المقرب المكرم عنده تعالى، ويقول: اللهم ببركة هذا العبد الذي رحمتَه وأكرمتَه وبما لك به من اللطف والكرم اقض حاجتي وأعط سؤلي إنك أنت المعطي الكريم، أو ينادي هذا العبد المقرب عند الله تعالى ويقول: يا عبد الله ويا وليه اشفع لي وادع ربك وسله أن يعطيني سؤلي ويقضي حاجتي، فالمعطي والمسؤول عنه والمأمول به هو الرب تعالى وتقدس، وما العبد فى البين إلا وسيلة، ولا القادر والفاعل والمتصرف إلا هو، وأولياء الله هم الفانون الهالكون في فعله تعالى وقدرته وسطوته…هذا وما ينقل عن المشايخ المكاشفين فى الإستمداد من أرواح الكمل واستفادتهم منهم فخارج عن الحصر مذكور في كتبهم مشهور فيما بينهم لا حاجة أن نذكرها)) (لمعات التنقيح ج٧ ص٣٨ – ٤٠)
وهذا – كما ترى – صريح في أن المراد بالإستغاثة عنده المعنى الأول والثالث والرابع المذكور أعلاه، ثم قال: ((نعم، إن كان الزائرون يعتقدون أهل القبور متصرفين مستبدين قادرين من غير توجه إلى حضرة الحق والإلتجاء إليها كما يعتقده العوام الجاهلون الغافلون، وكما يفعلون غير ذلك من تقبيل القبر والسجود له والصلاة إليه مما وقع منه النهي والتحذير، وذلك مما يمنع ويحذر منه وفعل العوام لا يعتبر قط…وحاشا من العالم بالشريعة والعارف بأحكام الدين أن يعتقد ذلك ويفعل)) (لمعات التنقيح، ج٧ ص٣٩)
وبعد هذا التمهيد، فأقول: إن محل الخلاف إذن هو طلب الحاجة من الميت مباشرة باعتقاد حقيقة معنى الطلب – لا أن يؤوله أو يكون مراده المعنى المجازي كما هو المعتاد فى الأشعار – بأن يقول فلان عند المصيبة: ((يا فلان النبي أو الولي، أغثي وأنقذني من هذه المصيبة))، ويعتقد أن ذلك النبي أو الولي يسمعه من بعيد، وله علم به، وله التصرفات على الإنقاذ والعون بنفسه. هذا هو محل الخلاف، فيقول مبتدعة الهند ومن وافقهم: إنه جائز لا بأس به، ويقول أهل السنة بالهند وعلى رأسهم علماء ديوبند إنه فعل شنيع لا يجوز، بل يخاف على صاحبه الكفر.
إن مشايخنا الحنفية قالوا: من قال أرواح المشايخ حاضرة تعلم يكفر (الفتاوى البزازية، ج٦ ص٣٢٦) وفى المحيط البرهاني (ج٧ ص٤٠٧): ((رجل تزوج امرأة ولم يحضره شهود، فقال الرجل: خدا را ورسول را بر تو كواه كردم، أو قال: خداي را وفرشتكان را كواه كردم، [أي: أُشهد الرسول أو الملك على النكاح] فقد كفر، لأنه اعتقد أن الرسول أو الملك يعلم الغيب.* في فتاوى الأصل: ولو قال: فرشته دست راست را كواه كرفتم، وفرشته دست ذب را كواه كردم لا يكفر [أي: أُشهد الملك على اليمين والملك على الشمال على النكاح] لا يكفر، لأنهما يعلمان ذلك، لأنهما لا يغيبان عنه.)) وهذه المسألة مصدره: الإمام أبو القاسم الصفار من متقدمى أئمة الحنفية.
والأصل في هذا أنه ليس لأحد من الخلق تصرف أو علم من غير سبب ومن غير كسب، أي: من غير إعطاء الله تعالى إياه بسبب من الأسباب، فليس لأحد من الخلق تصرف أو علم من فوق الأسباب أي: استقلالا، وهذه الأسباب معلومة إما من طريق العادة أو المشاهدة أو الشريعة/الوحي.
فإذا عُلم كون شيء سببا بطريق صحيحة، فاعتقاد المسبب لا بأس به، بل يجب في مثل ما هو ثابت لرسول الله صلى الله عليه وسلم من علم الشريعة والآخرة وعلم الجنة والنار إلى غير ذلك.
أما ما لم يثبت فالاعتقاد به هو نفس الاعتقاد بعلم أو تصرف فوق الأسباب، وهذا شرك محض وكفر محض. نعم، لو قال أحد على الرغم من اعتقاده بمثل هذا العلم أو التصرف للغير بغير دليل معتبَر: إني أقول به مع أني لا أعتقد أنه حصل به استقلالا بل هو حاصل بسبب، فهذا يصرف الكفر عنه، لكن لا يزال هذا العمل مشابها بعمل أهل الشرك لأنه يوهم معنى الإستقلال، فيحرم قطعا، بل يمكن أن يكفر لو كان كلامه مشابها بكلام أهل الشرك تماما، كأحد الهنود يدعو إله الهنادكة بهذا التأويل، أو أحد من المسلمين يدعو بين ظهراني النصرانية سيدنا عيسى عليه السلام ويطلب منه المدد بهذا التأويل، فإنه يحق للمفتي أن يفتي بكفره في هذه الصورة. فالتأويل في مثل هذه المواضع لا يصرف الكفر عنه. ومهما لم يثبت علم أو تصرف لأحد من طريق صحيح فإثباته مما يوهم الإستقلال، فلا يجوز من هذا الوجه. قال الفقهاء ((مجرد الإيهام كاف فى المنع من التكلم بهذا الكلام وإن احتمل معنى صحيحا.))
ويُستثنى من هذا معجزة أو كرامة يُعلم من طريق الوحي أو الكشف أنها ستتحقق، فيستعمل لفظ الإستغاثة إظهارا له، فهذا ليس بداخل في معنى ما تقدمت لأنه مما يُعلم كونه سببا من طريق صحيحة (أي: وحي أو كشف).
أما لو لم يعتقد المستغيث بمخلوق حقيقة كلامه، ويستعمل كلمة الإستغاثة لمحض الشوق والمحبة، فحكم مثل هذا متوقف على سياق الكلام، فإن كان مما لا يتوهم المعنى الحقيقي فيه فهو جائز لا بأس به، وإن كان مما يتوهم فيه هذا المعنى الباطل فيكره من هذا الوجه أو يحرم. قال الفقيه الشافعي محمد بن سليمان الكردي رحمه الله: ((وأما التوسل بالأنبياء والصالحين فهو أمر محبوب ثابت في الأحاديث الصحيحة وقد أطبقوا على طلبه، بل ثبت التوسل بالأعمال الصالحة وهي أعراض فبالذوات أولى، أما جعل الوسائط بين العبد وبين ربه، فإن كان يدعوهم كما يدعو الله تعالى في الأمور ويعتقد تأثيرهم في شيء من دون الله فهو كفر، وإن كان مراده التوسل بهم إلى الله تعالى في قضاء مهماته مع اعتقاده أن الله هو النافع الضارّ المؤثر في الأمور فالظاهر عدم كفره وإن كان فعله قبيحا)) (بغية المسترشدين، ص٣٠٨، ٣٦٩)
قال المفتي محمد تقي العثماني عند ذكر ملاحظاته على كتاب ((المفاهيم يجب أن تصحح)): ((لقد أحسن المؤلف، كما سبقت الإشارة منا إلى ذلك، في تأكيده على الإحتياط اللازم في أمر تكفير مسلم، فلا يكفر مسلم ما دام يوجد لكلامه محمل صحيح، أو محمل لا يوجب التكفير على الأقل، ولكن التكفير شيء ومنع الرجل من استعمال الكلمات الباطلة أو الموهمة شيء آخر، والإحتياط فى التكفير الكف عنه ما وجد منه مندوحة، ولكن الإحتياط فى الأمر الثاني هو المنع من مثل هذه الكلمات بتاتا. ومن ذلك قول المؤلف: فالقائل: يا نبي الله اشفني واقض ديني، لو فرض أن أحدا قال هذا، فإنما يريد: اشفع لي فى الشفاء، وادع لي بقضاء ديني، وتوجه إلى الله في شأني، فهم ما طلبوا منه إلا ما أقدرهم الله عليه، وملكهم إياه من الدعاء والتشفع، فالإسناد فى كلام الناس من المجاز العقلي (ص٩٥)، وهذا تأويل حسن للتخلص من التكفير، وهو من قبيل إحسان الظن بالمؤمنين، ولكن حسن الظن هذا إنما يتأتى فيمن لا يرفض تأويل كلامه بذلك، أما من لا يرضي بهذا التأويل بنفسه، كما هو واقع من بعض الناس فيما أعلم، فكيف يؤول كلامه بما لا يرضى به هو؟! وبالتالي فإن هذا التأويل وإن كان كافيا للكف عن تكفير القائل ولكنه هل يشجع على استعمال هذه الكلمات؟ كلا! بل يمنع من ذلك تحرزا من الإيهام والتشبه على الأقل، كما نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن استعمال لفظ عبدي للرقيق لكونه موهما، فالواجب عندي على من يلتمس التأويل لهؤلاء القائلين أن يصرح بمنعهم عن ذلك لئلا يشجعهم تأويله على استعمال الكلمات الموهمة، فإن من يرعى حول الحمى أوشك أن يقع فيه.)) (منقول في آب كى مسائل اور ان كا حل، ج١٠ ص١٧٠ – ١٧١)
فهذا هو موقف علماء ديوبند في هذه المسألة، وبالنظر إليه يمكن تخريج غيره من المسائل مما يتشدد فيه علماء ديوبند ويتساهل فيه الآخرون.
العلامة عبد الحي اللكنوي (١٨٤٨ – ١٨٨٦ م) – الذي فضله ومنّه على الأمة معروف – وهو ليس بديوبندي، بل معاصر لمؤسسي علماء ديوبند، وكان صديقا للشيخ قاسم النانوتوي، سئل عن رجل يظن أن الأولياء يعلمون ويسمعون نداء المنادي قريبا وبعيدا فيستمده بألفاظ يقولها الحاضر للحاضر: ((هذا رجل فاسد العقيدة، بل يخشى عليه الكفر، فإن سماع الأولياء للنداء من بعيد ليس بثابت، والعلم الكلي بجميع الجزئيات في جميع الأزمان مختص بالله جل جلاله، وقد قال فى الفتاوى البزازية: من قال إن أرواح المشايخ حاضرة تعلم يكفر، انتهى. وذكر فيه أيضا أن من تزوج بشهادة الله ورسوله يكفر لأنه ظن أن الرسول يعلم الغيب، انتهى…والله أعلم، حرره الراجي عفو ربه القوي أبو الحسنات محمد عبد الحي تجاوز الله عن ذنبه الجلي والخفي.)) (مجموعة الفتاوى، ص٣٧٨ – ٣٨٩)
وسئل عما اشتهر فى بلاد الهند بين العوام من نداء الأنبياء والأولياء من بعيد عند المصيبة والحاجة استغاثةً بهم مع اعتقاد أنهم حاضرون ناظرون وأنهم إذا استُغيث بهم هم عالمون قاضون حاجاتهم، فأجاب بما تعريبه: ((مثل هذا الإعتقاد فى الأنبياء والأولياء أنهم حاضرون ناظرون شرك، فإنه يلزم منه العلم بالغيب لغير الله تعالى، وهذه العقيدة شرك. فإن هذه الصفة خاصة بالله تعالى لا يشاركه فيه أحد.)) (مجموعة الفتاوى، ص٣٤٤ – ٣٤٥) ثم نقل من الفتاوى البزازية نفس الجزئيتين المذكورتين.
قال السيد محمود الآلوسي رحمه الله، وهو معاصر لمشايخ مؤسسي دار العلوم ديوبند: ((الناس قد أكثروا من دعاء غير الله تعالى من الأولياء الأحياء منهم والأموات وغيرهم، مثل: يا سيدي فلان أغثني، وليس ذلك من التوسل المباح في شيء، واللائق بحال المؤمن عدم التفوه بذلك، وأن لا يحوم حول حماه، وقد عده أناس من العلماء شركا، وإن لم يكنه فهو قريب منه، ولا أرى أحدا ممن يقول ذلك إلا وهو يعتقد أن المدعو الحي الغائب أو الميت المغيب يعلم الغيب أو يسمع النداء ويقدر بالذات أو بالغير على جلب الخير ودفع الأذى، وإلا لما دعاه ولا فتح فاه، وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم، فالحزم التجنب عن ذلك وعدم الطلب إلا من الله تعالى القوي الغني الفعال لما يريد…ولا يغرنك أن المستغيث بمخلوق قد تُقضى حاجته وتنجح طلبته، فإن ذلك ابتلاء وفتنة منه عز وجل)) (روح المعاني، مؤسسة الرسالة، ج٧ ص١٨١)
تنبيه: قد زعم بعض الناس أن التفسير هذا فيه تحريف، وهذا لا يصح، كما هو موضّح في دراسة هذه الطبعة المحققة.
قال العلامة صنع الله الحلبي: ((قد ظهر الآن فيما بين المسلمين جماعات يدعون أن للأولياء تصرفات في حياتهم وبعد الممات ويستغاث بهم فى الشدائد والبليات، وبهممهم تنكشف المهمات، فيأتون قبورهم وينادونهم في قضاء الحاجات مستدلين على أن ذلك منهم كرامات، وقررهم في ذلك من ادعى العلم بمسائل وأمدهم بفتاوى ورسائل…وهذا كما ترى كلام فيه تفريط وإفراط وغلو فى الدين بترك الإحتياط بل فيه الهلاك الأبدي والعذاب السرمدي لما فيه من روائح الشرك المحقق ومصادرة الكتاب العزيز المصدق ومخالفة لعقائد الأئمة وما اجتمعت عليه هذه الأمة.)) (سيف الله، ص٢٢ – ٢٣) وقال: ((والإستغاثة تجوز فى الأسباب الظاهرة العادية من الأمور الحسية في قتال أو إدراك عدو أو سبع ونحوه كقولهم يا لزيد يا لقومي يا للمسلمين كما ذكروا ذلك في كتب النحو بحسب الأسباب الظاهرة بالفعل، أما الإستغاثة بالقوة والتأثير أو فى الأمور المعنوية من الشدائد…فمن خصائص الله.)) (سيف الله، ص٥١)
أحمد الرومي عالم عثماني عاش قبل أكثر من ٤٠٠ سنة، ألف رسالة ((مجالس الأبرار)) رد فيها على فعل الإستغاثة، وهذا كتاب قرظ عليه الشاه عبد العزيز الدهلوي والعلامة عبد الحي اللكنوي، وهو كتاب معروف متداول مقبول عند علماء ديوبند وغيرهم.
قال الشيخ رشيد أحمد الكنكوهي: ((نداء غير الله تعالى من بعيد إنما يكون شركا حقيقيا إذا اعتقد فيه أنه عالم سامع مستقل، وإلا لا يكون شركا.)) (التأليفات الرشيدية مع الفتاوى الرشيدية، ص٥٥) وقال عن طلب العون من الميت: ((إن قال هذا معتقدا أن الشيخ (المستغاث به) عالما بالغيب ومتصرفا مستقلا فهو شرك محض، قال تعالى: وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو الآية، وغيره من النصوص. قال فى البزازية وغيرها من الفتاوى: من قال إن أرواح المشايخ حاضرة تعلم يكفر، ومن ظن أن الميت يتصرف فى الأمور دون الله واعتقد به كفر، كذا فى البحر الرائق، انتهى من مائة المسائل. ومن لم يعتقد ذلك فحتى في هذه الصورة إنه لا يجوز، فإن في هذه الصورة وإن لم يكن هذا النداء شركا، إنه مشابه بالشرك، ولفظ يوهم معنى الشرك لا ينبغي التلفظ به أيضا، قال تعالى: لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا، وقال عليه السلام: لا تقولوا ما شاء الله وما شاء فلان، ولكن قولوا: ما شاء الله ثم شاء فلان الحديث…)) (التأليفات الرشيدية مع الفتاوى الرشيدية، ص٩٢)
قال حكيم الأمة مولانا أشرف علي التهانوي (١٨٦٣ – ١٩٤٣ م): ((التوسل له تفاسير ثلاثة. الأول: دعاءه واستغاثته كديوان المشركين [أي كما يفعله المشركون، أي: مباشرة وحقيقة]، وهو حرام إجماعا، أما أنه شرك جلي أم لا فمعياره: أنه إن اعتقد استقلاله بالتأثير فهو شرك كفري اعتقادا…وإلا فلا، ومعنى استقلاله أن الله قد فوّض إليه الأمور بحيث لا يحتاج في إمضائها إلى مشيئته الجزئية وإن قدر على عزله عن هذا التفويض…)) (بوادر النوادر، ص٧٠٦، ٧٠٨)
قال العلامة إدريس الكاندهلوي (١٨٩٩ – ١٩٧٤ م) ما تعريبه: ((ليُعلم أن الإستغاثة بغير الله ليس بحرام مطلقا. في بعض الصُّور إن الإستغاثة بغير الله كفر وشرك، وفي بعض الصُّور هو جائز. والضابط فيه أنه لو اعتقد أن هذا الغير يفعل ذلك استقلالا وله قدرة ذاتية أو له مثل هذا التصرف والإختار [أي: الإستقلال] بعد أن فوضه الله تعالى إليه، فهذا كفر وشرك من غير شك…أو يتوهم منه استقلاله فهذا يكون غير جائز وحرام، وفي بعض الصور يخشى على صاحبه الكفر)) (معارف القرآن، ج١ ص٢١ – ٢٢)، ثم بيّن جميع هذه الصور بالتفصيل ونقل عن تفسير الشاه عبد العزيز الدهلوي لتأييد كلامه.
هذا، وأما كلام من يبدو منه جواز الإستغاثة الممنوعة فهو إما مؤول، أو يكون شذوذا لا يجوز الأخذ به. وهذا ليس موضع التفصيل، فأقتصر على هذا القدر. ولمزيد لتفصيل والرد على شبهات المخالفين، ليراجَع رسالة العلامة ظفر أحمد العثماني ورسالة العلامة مرتضى حسن الجاندبوري المشار إليهما أعلاه.
* تنبيه: قد تواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه يجيء أناس ممن صحبه إلى حوضه فيمنعهم الملائكة من التقدم إلى الحوض، فيقول صلى الله عليه وسلم: أصحابي، هم مني، إلى غير ذلك، فيخبره الله تعالى والملائكة بأنه لا علم له بما أحدث هؤلاء بعده من الإرتداد عن دينه، فيقول صلى الله عليه وسلم كما جاء في رواية: وكنت عيلهم شهيدا ما دمت فيهم، فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم.
فهذا الدليل القطعي الثبوت يدل على بطلان قول المبتدعة بأن النبي صلى الله عليه وسلم حصل على علم جميع ما فى الكون بحيث لا يعزب عنه مثقال ذرة، والتأويل فيه بعيد جدا. أما ما قد يشكل على البعض من حديث عرض الأعمال على النبي صلى لله عليه وسلم، فقال ابن الملقن في شرحه على البخاري وغيره من الشراح أن العرض المذكور في ذلك الحديث مخصوص بأعمال المؤمنين لا أعمال المرتدين والزنادقة والكفار، فهذا وجه الجمع بين الحديثين ووجه دفع هذا الإشكال، مع أنه ليس فى الحديث أن هذا العرض هو عرض تفصيلي، بل المتبادر إلى الذهن هو العرض الإجمالي ، فهو عرض محض من غير تعيين الشخص والوقت والمكان إلى غير ذلك، إلا ما شاء الله، كما في حديث سنن أبي داود: ((عرضت علي أجور أمتي حتى القذاة يخرجها الرجل من المسجد، وعرضت على ذنوب أمتي فلم أر ذنبا أعظم من سورة من القرآن أو آية أوتيها رجل ثم نسيها))