مسألة إمكان الكذب وموقف علماء ديوبند منها


بسم الله الرحمن الرحيم

تلخيص رسالة “جهد المقل” لشيخ الهند محمود حسن الديوبندي في مسألة إمكان الكذب

قد طلب مني بعض الإخوة أن أكتب مقالة في موضوع ‘إمكان الكذب’، الذي صار معركة للآراء في شبه القارة الهندية، فأحببت أن ألخص رسالة لشيخ الهند مولانا محمود حسن الديوبندي رحمه الله (١٢٦٨ – ١٣٣٩ ه)، من أكبر علماء الهند وأجلهم في جميع العلوم النقلية والعقلية [له ترجمة في نزهة الخواطر]، مسماة ب: ‘جهد المقل في تنزيه المعز المذل’، بسط فيها الكلام عن مسألة إمكان الكذب، ومنشأ التنازع عنها فى الهند، والحق يقال: هذه الرسالة من عجائب العلم، ظهر منها غزارة علم المؤلف وتبحره فى العلوم النقلية والعقلية ولا سيما علم الكلام والتوحيد

لم أقف على تاريخ تأليف كتابه هذا، لكن يعلم من قرائن الكتاب أنه رحمه الله ألفه في حياة الشيخ إمداد الله المهاجر المكي المتوفى سنة: ١٣١٧ه وبعد سنة ١٣٠٣ ه، فتأليفه إذن وقع ما بين هذين التاريخين (١٣٠٣ – ١٣١٧ ه/١٨٨٦ – ١٨٩٩ ميلادي)، أعني: قبل قرن تام. وهو كتاب كبير يزيد على ٣٠٠ صفحة، في كل صفحة حوالي ٢٥ سطرا وفي كل سطر حوالي ١٥ كلمة. والكتاب صنفه مؤلفه باللغة الأردوية مع نقل العبارات التي استدل بها باللغة العربية

وقسمه إلى سبع مقدمات وثلاثة أبواب، الباب الأول في إثبات دعواه أن الكذب داخل في قدرة الله تعالى القديمة وإنما امتنع وقوعه وصدوره عنه لحكمة والتزامه سبحانه الصدق لا لعدم دخوله فى القدرة، والباب الثاني فى الجواب عن الإعتراضات التي أوردها الخصم على الأدلة التي استدل بها المؤلف، والباب الثالث فى الجواب عن الأدلة التي استدل بها الخصم في إثبات دعواهم أن الكذب لله تعالى ممتنع ذاتيا لا يشمله القدرة القديمة. إنما اطلعت على البابين الأول والثاني من الكتاب، ولم أقف على الباب الثالث منه. فأقدم في هذه العجالة تلخيص ما كتبه فى المقدمات السبع والباب الأول مع بعض الزيادات من الباب الثاني، وأرجو أن يكون هذا كافيا في بيان ما ذهب إليه علماء ديوبند، وأنهم ذهبوا إلى ما ذهبوا إليه على بصيرة وعلم، لا على أساس الوهم والخيال

مقدمة المؤلف

بين المؤلف (شيخ الهند رحمه الله) في مقدمة الكتاب منشأ الخلاف في هذه المسألة، وهو أن العلامة المنطقي فضل حق الخيرآبادي (١٢١٢ – ١٢٨٩ ه) ألف كتابا في ‘إبطال إمكان النظير’، صنفه ردا على جملة كتبها الشيخ المجاهد الشاه محمد إسماعيل الدهلوي الشهيد (١١٩٣ – ١٢٤٦ ه) في كتابه ‘تقوية الإيمان’ – وهي قوله: ((وشأن ملك الملوك هذا أنه لو شاء لخلق في لحظة واحدة بكلمة ‘كن’ مئات آلاف من الأنبياء والأولياء والجن والملائكة مثل جبرئل عليه السلام ومحمد صلى الله عليه وسلم))* -، فرد على هذا الكلام العلامة المذكور بأنه لا يمكن وجود نظير لسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس في قدرة الله تعالى إيجاد مثل محمد صلى الله عليه وسلم، فأجاب عن رده هذا الشيخ إسماعيل الدهلوي، وأثبت الإمكان الذاتي لوجود نظير رسول الله صلى الله عليه وسلم وأثبت شمول قدرة الله تعالى إيجاده مع الإمتناع لغيره، وبما أن الخيرآبادي ذكر مسألة استحالة الكذب على الله تعالى استطرادا، أجاب الدهلوي بأن هذه الإستحالة ليست لعدم دخوله فى القدرة القديمة كما زعمه الخيرآبادي، بل هي نتيجة احتراز الله جل وعلا من مثل هذا القبيح، وذكر دليلين عقليين على دعواه هذا – سأذكرهما بعد إن شاء الله. فعندما نشر كلامه هذا أخذ مخالفوه فى التشنيع عليه وعلى ما قاله، محرفين كلامه، حتى يتمكنوا من تنفير العوام عنه. لما كثرت هذه الطعون فى مقالة الشاه محمد إسماعيل الدهلوي وشخصيته، قام تلميذه الشيخ حيدر علي التونكي وغيره من العلماء بالدفاع عنه، وألفوا رسائل في هذين المسألتين – أعني: مسألة إمكان النظير ومسألة إمكان الكذب

وبعد أن مات هذا النزاع لسنوات عديدة أحياه المولوي عبد السميع الرامپوري في مقدمة كتابه: ‘الأنوار الساطعة’، الذي طبع في سنة ١٣٠٣ ه، ورد عليه العلامة المحدث الكبير خليل أحمد السهارنپوري في كتابه ‘البراهين القاطعة’، وانتشر – بسبب هذه المناظرة – الكلام في هذه المسألة بين العوام، وأيد علماء المنطق والفلسفة القائلين باستحالة الكذب على الله تعالى ذاتيا، فصنف المولوي أحمد حسن الپنجابي الكانپوري رسالة سماها: ‘تنزيه الرحمن’، أطال لسانه فيها في شأن العلماء الصالحين، وهذا الكتاب – أعني ‘جهد المقل في تنزيه المعز الذل’ الذي نحن بصدد تلخيصه – صنفه مؤلفه رحمه الله تعالى ردا على الرسالة المذكورة، أي: ‘تنزيه الرحمن’، في أوله مقدمات تفيد في فهم المقصود، ثم إيراد الدلائل النقلية والعقلية في إثبات قول الشيخ إسماعيل الدهلوي رحمه الله في باب، ثم الرد على الإعتراضات التي أوردها الخصم على هذه الدلائل في باب آخر، ثم الرد على ما استدلوا بها في إثبات دعواهم في باب أخير

المقدمات

المقدمة الأولى

تستعمل ألفاظ ‘الإمكان’ و’الجواز’ و’الصحة’ وأمثالها في كلام العلماء وعبارات الكتب لمعان عديدة: كالإمكان الذاتي والإمكان العقلي والإمكان الشرعي والإمكان العرفي، وكذلك ينقسم أضدادها من ‘الامتناع’ و’الاستحالة’ و’عدم الجواز’ و’عدم الصحة’ إلى هذه الأقسام. قد يكون أمر ممتنعا للغير – أي شرعا أو عادة – مع كونه ممكنا في ذاته، أما ما يكون ممكنا فلا يكون إلا ممكنا لذاته. هذا أمر بديهي

كون الأمر واجبا أو ممتنعا أو ممكنا ضرورية حاصلة لمن لم يمارس طريق الإكتساب [كما قاله بعضهم]، وأما كون هذا الحكم ذاتيا أو شرعا أو عرفا فليس بضرورية. فعلى هذا يجب تعيين النوع المراد من لفظ ‘الممكن’ أو ‘المستحيل’ أو ‘الواجب

القضية مركبة من أمرين: الموضوع – وهو الشيء المبحوث عنه أو الموصوف – والمحمول – وهو الحكم أو الوصف. إذا كان المحمول عين الموضوع أو الموضوع جزء منه أو هو لازم ذات الموضوع كان الحمل فى القضية إيجابيا واجبا ضروريا في حد ذاته. مثال الأول (أي: المحمول عين الموضوع): الإنسان إنسان، ومثال الثاني (أي: الموضوع جزء المحمول): الإنسان حيوان، ومثال الثالث (أي: المحمول لازم ذات الموضوع): الأربعة زوج. ويكون أضداد هذه القضايا سلبيا مستحيلا لذاتها، أي: الإنسان ليس بإنسان، الإنسان ليس بحيوان، والأربعة فرد. أما ما سوى هذه المواد الثلاثة، فهو ممكن في ذاته، وإن كان فيها السلب لأمر عارضي فهو مستحيل لغيره، وإن كان فيها الإيجاب لأمر عارضي فهو واجب لغيره

أما في ذات الواجب تبارك وتعالى: إذا كان الحمل في قضية ما يقتضي سلب الذات أو سلب الصفات الحقيقية الذاتية اللازمة للذات فلا شك في كون هذه القضية ممتنعا لذاتها

يظهر من هذا التقرير أن قضية: ((المطيع يعاقب)) وقضية: ((المشرك يغفر)) ليستا ممتنعتين لذاتيهما، فإنه ليس بين المحمول والموضوع فى القضيتين إقتضاء ذاتي وليس بينهما تنافر ذاتي، وإنما ورد السلب فيهما من الخارج. فقول أحد: ((زيد المشرك مغفور له)) أو: ((أبو جهل مؤمن)) أو: ((قد بعث نبي بعد الرسول صلى الله عليه وسلم)) مما هو خلاف العلم، ليس بين المحمول والموضوع تخالف ذاتي، فلا يحكم عليها بكونها ممتنعا بالذات – بل بالغير. إنه أمر بديهي أن قول أحد: المشرك مغفور له ليس مثل قول آخر:الأربعة فرد

المقدمة الثانية

يستعمل لفظ ‘الاستطاعة’ ولفظ ‘القدرة’ في كلام العلماء لمعنيين: أحدهما: الصفة القديمة التي تضاد العجز، وهي تشمل جميع الممكنات حتى ما يمتنع لغيره، وثانيهما: التقدير ومقتضى الإرادة والحكمة، وهذا لا يشمل الممكنات التي تمتنع لغيرها

قال صاحب ‘التلويح’: ((فإن قيل القدرة أيضا شاملة لجميع الممكنات فينبغي أن يقع بقوله: أنت طالق في قدرة الله تعالى، أجيب بأنها بمعنى تقدير الله تعالى فيصير من قبيل المشيئة والإرادة)) انتهى

وقال الملا خسرو في حاشيته على التلويح: ((فإذا عرفت هذا فاعلم أن القدرة تستعمل تارة بمعنى الصفة القديمة وتارة بمعنى التقدير…بالتخفيف والتشديد، وكذا قوله تعالى: قدرناها من الغابرين، والقدرة بالمعنى الأول لا يوصف الباري بضدها وهو ظاهر، وبالمعنى الثاني يوصف به وبضده)) انتهى

وقال ابن الهمام رحمه الله: ((ولا يلزم القدرة لأن المراد منها ههنا التقدير وقد يقدر شيئا وقد لا يقدره، حتى لو أراد حقيقة قدرته تعالى تقع فى الحال، كذا فى الكافي)). ونقل هذه العبارة فى الدر المختار ورد المحتار وغيرهما

قال القاضي البيضاوي تحت قوله تعالى حاكيا عن الحواريين: ((هل يستطيع ربك)): ((قيل: هذه الإستطاعة على ما يقتضيه الحكمة والإرادة لا على ما يقتضيه القدرة)) انتهى

وقال الرازي تحت قوله تعالى: ((فقدرناها فنعم القادرون)): ((إنه من القدرة، أي: فقدرنا على خلقه وتصويره كيف شئنا وأردنا إلخ)) ثم قال: ((ثالثا: إن تفسير القدرة بالقضاء، ورابعا: فظن أن لن نقدر عليه، فظن أن لن نفعل)) انتهى

قال الشيخ ابن حجر الهيتمي في تفيسر قول حجة الإسلام الغزالي ((ليس فى الإمكان أبدع مما كان)): ((حاصل الجواب عن كلام الغزالي المذكور: أن إرادة الله سبحانه وتعالى لما تعلقت بإيجاد هذا العالم وأوجده وقضا ببقاء بعضه إلى غاية وبقاء بعضه لا إلى غاية وهو الجنة والنار كان ذلك مانعا من تعلق القدرة الإلهية بإعدام جميع هذا العالم، لأن القدرة لا تتعلق إلا بالممكن، وإعدام ذلك غير ممكن لا لذاته بل لما تعلق به مما ذكرناه إلخ)) انتهى

وبناء على هذا التفصيل يمكن لنا رفع التعارض الذي يظهر في كلام بعض العلماء، فقد قال الفخر الرازي في تفسير: ((هل يستطيع ربك)): ((وأما على قولنا فهو محمول على أن الله تعالى هل قضى بذلك وهل علم وقوعه فإنه إن لم يقض به ولم يعلم وقوعه كان ذلك محالا غير مقدور لأن خلاف المعلوم غير مقدور)) انتهى

وقد ذهب بعض المعتزلة إلى ظاهر هذا الكلام كما في ‘شرح المواقف’ وغيره أنهم قالوا: ((إن الله لا يقدر على ما أخبر بعدمه أو علم بعدمه والإنسان قادر عليه)) انتهى

والرازي نفسه قال في مواضع من تفسيره أن خلاف المعلوم داخل في قدرة الله تعالى، فطريقة رفع التعارض هنا هو بقولنا: مراده بالمقدور ما هو المراد أو ما هو مقدر في علمه تعالى

المقدمة الثالثة

صفات الله تعالى على ثلاثة أنواع

١. الحقيقية المحضة كالحياة والوجود
٢. الحقيقية ذات إضافة كالعلم والقدرة
٣. الإضافية المحضة كالمعية والقبلية وأمثالهما، وعند الأشعرية: الخالقية والرازقية وأمثالهما

فأما النوع الأول من الصفات فليس لهذه الصفات تعلق من حيث ذواتها بشيء آخر، وأما النوع الثالث فلهذه الصفات تعلق من حيث ذواتها بشيء آخر

لا يقع تغير ما فى الصفات الأولى إذ هي عين ذات الله، أما صفة من صفات النوع الثاني فلا يقع تغير في مبدئها وقد يتغير تعلقاتها، وأما صفة من صفات النوع الثالث فلا مانع من التغير فيها

قال في شرح المواقف: ((الصفات على ثلاثة أقسام: حقيقية محضة كالسواد والبياض والوجود والحياة وحقيقية ذات إضافة كالعلم والقدرة وإضافية محضة كالمعية والقبلية وفي عدادها الصفات السلبية ولا يجوز بالنسبة إلى ذاته تعالى التغير فى القسم الأول مطلقا ويجوز فى القسم الثالث مطلقا وأما الثاني فإنه لا يجوز التغير فيه نفسه ويجوز في تعلقه)) انتهى

وفيه أيضا: ((قال الآمدي: ذهب الشيخ الأشعري وعامة الأصحاب إلى أن الصفات منها ما هي عين الموصوف كالوجود ومنها ما هي غيره وهي كل صفة أمكن مفارقتها عن الموصوف كصفات الأفعال من كونه خالقا ورازقا ومنها ما لا عين ولا غير إلخ)) انتهى

قال المحقق الدواني في بحث عدم قيام الحوادث بذات الله تعالى: ((المراد من الحوادث ههنا الصفة الحقيقية وأما الصفات الإضافية والسلبية فيجوز التغير والتبديل فيها فى الجملة كخالقية زيد وعدم خالقيته وذلك لأن التبدل فيها إنما يتغير ما أضيف إليه لا يتغير ما في ذاته كما إذا انقلب الشيء من يمينك إلى يسارك وأنت ساكن غير متغير والصفات الحقيقية التي يلزمها الإضافة إنما يتغير تعلقاتها دون نفسها، لا يقال: هذا الدليل جار فى الإضافات والسلوب مع تخلف المدعى عنه لأنا نقول: لا يتم جريان الدليل فيها كلها فإن مثل إيجاد العالم وخالقية زيد ليس من صفات الكمال حتى يكون الخلو عنها فى الأزل نقصا إلخ)) انتهى

فثبت من هذه النقول أن صفات الله تعالى على أقسام، ولكل قسم حكم على حدة، فلا يحكم على جميع الصفات بحكم نوع منها

الصفات الفعلية هي الصفات التي تدل على فعل وأثر، وإطلاقها يدل على حدوث عمل كخلق ورزق وإحياء وإماتة وتصوير وغفران الذنوب وحكمة وغير ذلك، وقد اختلف فيها السادات الأشاعرة والسادات الماتريدية كثرهم الله تعالى. اعتبر الأشاعرة كلا من هذه الصفات حادثا ومتغيرا وعده الماتريدية قديما أزليا. فقال الملا علي القارئ: ((فمذهب الماتريدية أنها قديمة ومذهب الأشاعرة أنها حادثة)) وفى المسامرة شرح المسايرة: ((لأنهم قائلون بأن صفات الأفعال حادثة لأنها عبارة عن تعلقات القدرة والتعلقات حادثة)) انتهى

وعلى الرغم من هذا الإختلاف، اتفق الأشاعرة والماتريدية على أن مبدأ صفات الأفعال قديم، وهو عند الأشاعرة: القدرة، وعند الماتريدية: التكوين. قال الملا علي القارئ في شرح الفقه الأكبر: ((فالتخليق والترزيق والإبداع والصنع وغير ذلك من صفات الفعل كالإحياء والإفناء والإنبات والإنماء وتصوير الأشياء والكل داخل تحت صفة التكوين…فالأولى أن يقال أن مرجع الكل إلى التكوين فإنه إن تعلق بالحياة يسمى إحياء وبالموت إماتة وبالصورة تصوير إلى غير ذلك فالكل تكوين وإنما الخصوص بخصوصيات المتعلقات)) انتهى

وقال ابن الهمام الإمام فى المسايرة: ((والمراد بها صفات تدل على التأثير لها أسماء غير اسم القدرة باعتبار أسماء آثارها والكل يجمعها اسم التكوين)) وقال بالنسبة لمذهب الأشاعرة: ((والأشاعرة يقولون ليست صفة التكوين على فصوله أي تفاصيله سوى صفة القدرة باعتبار تعلقها بمتعلق خاص فالتخليق هو القدرة باعتبار تعلقها بالمخلوق والترزيق تعلقها بإيصال الرزق)) انتهى

فالاختلاف إذن لفظي: اعتبر الماتريدية الصفات الفعلية قديمة باعتبار مرجعها ومبدئها وعدها الأشاعرة حادثة باعتبار تعلقاتها الخاصة

نقل الإمام الطحاوي عن الإمام أبي حنيفة وصاحبيه: ((كما أنه محيى الموتى استحق هذا الإسم قبل إحيائهم كذلك استحق اسم الخالق قبل إنشاءهم، ذلك بأنه على كل شيء قدير))، وهذه الجملة الأخيرة تدل على كون الصفات الفعلية قديمة من حيث مبدؤها. قال فى المسايرة بعد نقل هذه العبارة: ((فأفاد أن معنى الخالق قبل الخلق واستحقاق اسمه أي الاسم الذي هو الخالق فى الأصل بسبب قيام قدرته تعالى عليه أي على الخلق فاسم الخالق والحال أنه لا مخلوق فى الأزل لمن له قدرة الخلق فى الأزل، وهذا هو ما تقوله الأشاعرة لا خلاف والله الموفق)) انتهى

فبناء على قول الإمام أبي حنيفة لا خلاف بين الأشاعرة والماتريدية فى المسألة. فقال الملا علي القارئ: ((النزاع لفظي عند أرباب التدقيق كما تبين عند التحقيق إلخ)) انتهى

الحاصل أن الماتريدية جعلوا التكوين فى النوع الثاني من الصفات، والأشاعرة جعلوه فى النوع الثالث. يمكن لنا أن نعبر عن النوعين الأخيرين من الصفات بتعبير آخر، وهو أن الصفات الإضافية نوعان: منها ما هي إضافية محضة كالقبلية ومنها ما هي إضافية ذات مبدء، والتغير في كل منهما ممكن

فثبت أن الصفات الفعلية وإن كانت مبدءها – القدرة أو التكوين – قديم، لكنها من حيث كونها موقوفة على ظهور بعض الأفعال التي هي التعلقات الخاصة والإضافات لهذا المبدأ: هي حادثة ومتغيرة لا محالة. مثلا: إذا قلنا: إن الله صانع العالم، فإن تحقق صنع العالم حادث وإن كان مبدء هذا الصفة قديم. فتحقق صفات الأفعال الخاصة كالإعطاء والمنع والإضرار والإحياء والإماتة حادث

وعقيدة أهل السنة والجماعة أن الصفات الكمالية كالقدرة والعلم خارجة عن القدرة الإلهية، أما إصدار الأفعال القبيحة التي تخالف العدل (كتعذيب الشخص بذنب غيره) والحكمة (كالسفه والعبث) وأمثالهما فهي في قدرة الله تعالى مع أن وقوعها ممتنع. أما الأفعال التي تقتضي التغير فى الذات أو الصفات الكمالية الحقيقية كالأكل والشرب والحركة والإنتقال وغيرها فهي ممتنعة ذاتيا لا محالة، فإن محل وقوعها ذات البارئ تعالى الذي ليس قابلا لمثل هذه الأفعال فإنه ليس جسما، ومحل وقوع الأفعال كالسفه والعبث والظلم بمعنى وضع الشيء في غير محله فمحل وقوعها غير ذاته تعالى، ولا تقتضي تغيرا في ذاته ولا في صفاته الحقيقية، فهي من الممكنات في نفسها

ليس العدل والحكمة من الصفات الذاتية الحقيقية، بل هي من الصفات الفعلية الإضافية، فخلاف العدل والحكمة أيضا من الصفات الفعلية. قال في مسلم الثبوت: ((السفه والعبث من صفات الأفعال)) انتهى

النقص فى الأفعال – وهو المراد بقولنا: الأفعال القبيحة – كالسفه والظلم والعبث ليس مثل النقص فى الصفات الذاتية كالجهل بمعنى عدم العلم والعجز والنسيان. استحالة الأول ليس لعدم دخوله في قدرة الله تعالى، واستحالة الثاني لعدم دخوله فى القدرة. والنظامية من المعتزلة لم يفرقوا بين هذين القسمين فقالوا بأن الأفعال القبيحة ليست تحت القدرة أيضا كالنقص فى الصفات الذاتية. الصفات الذاتية الحقيقية أزلية غير متغيرة قائمة بذات الواجب تعالى – وهي الصفات التي يقال فيها أنها ليست عين الذات ولا غيرها، والصفات الإضافية الفعلية ليست كذلك. ففي بعض كتب الكلام: ((ومنها ما هي غيره وهي كل صفة أمكن مفارقتها عن الموصوف كصفات الأفعال من كونها خالقا ورازقا)) انتهى

وفرق آخر هو أن الصفات الذاتية الحقيقية الوجودية تختلف حقائقها وكنهها من حقائق هذه الصفات بالنسبة إلى العباد كما يختلف كنه ذات البارئ تعالى من كنه ذوات الخلق، ولكن هذا الاختلاف فى الحقيقة لا يتحقق فى الصفات الفعلية والصفات السلبية. فحقيقة ومفهوم علم الله تعالى وقدرته وكلامه وأمثالها مخالفة من حقيقة هذه الصفات فى العباد، لا اشتراك فى معنى وذاتيات هذه الصفات في شيء، إنما الاشتراك في شيء اعتباري أو إضافي

في شرح العقائد: ((فإن أوصافه من العلم والقدرة وغير ذلك أجل وأعلى مما فى المخلوقات بحيث لا مناسبة بينهما، قال فى البداية: إن العلم منا موجود وعرض وعلم محدت وجائز الوجود ومتحدد في كل زمان فلو أثبتنا العلم صفة لله تعالى لكان موجودا وصفة قديمة وواجب الوجود ودائما من الأزل إلى الأبد، فلا يماثل علم الخلق بوجه من الوجوه)) وقال محشيه: ((حتى إن الاشتراك منها لفظي)) انتهى

أما الصفات الفعلية والسلبية لا مخالفة بين هذه الصفات في حق الله تعالى وفي حق العباد، فإن هذه الصفات ليست عين ذات الله وليس قائمة به، بل منفصل عنه، وما هو منفصل عن ذات الواجب حادث وممكن، فليس هناك سبب لإثبات الفرق بين هذه الصفات وصفات الممكنات

فقول المتكلمين: ((ليس بعرض ولا جسم ولا جوهر ولا محدود ولا معدود ولا منتهاة ولا متبعض ولا متركب ولا ضد له ولا مثل له ولا ند له))، معنى هذه الكلمات في حق الله تعالى مثل معناها في حق العباد، فقالوا أنه ليس بعرض ((لأنه لا يقوم بذاته بل يفققر إلى محل يقوم به)) وليس بجسم ((لأن الجسم مركب فيحتاج إلى الجزء))، وهذه المعاني هي نفس معاني هذه الألفاظ بالنسبة للخلق أيضا

وكذا فى الصفات الفعلية، كالحكمة – التي هي ترك ما لا ينبغي وفعل ما ينبغي – والإنتقام والصدق والعفو والمنع والإضرار، معنى هذه الصفات بالنسبة للخالق مثل معناها بالنسبة للخلق، وتفسير ‘الصفات الدالة على الأفعال’ فى ‘التفسير الكبير’ للرازي وغيره كاف في إثبات دعوانا هذه

وبناء على هذا الفرق يطلق على العبد أنه متكلم سميع بصير مريد ولا يطلق عليه أنه محي مميت خالق محدث، فإن الأول مختلف الحقيقة والكنه فلا حرج في استعمال نفس الألفاظ، والثاني متحد الحقيقة والكنه فلا يجوز إطلاقها على الخلق

والصدق – كما سيأتي – من صفات الأفعال، بل من إضافات صفة من صفات الأفعال، وحقيقته بالنسبة إلى الخالق مثل حقيقته بالنسبة إلى الخلق، وهو كون الكلام مطابقا للواقع، وكذا معنى الكذب – الذي هو ضد الصدق – بالنسبة إلى الخالق نفس معنى الكذب بالنسبة إلى الخلق – وهو كون الكلام غير مطابق للواقع

وظاهر أن الكذب والعبث والظلم، بل الأكل والشرب والإنتقال والسكون وأمثالها، التي نفيناها عن الله تبارك وتعالى، وننزهه عنها، نحمل معاني هذه الكلمات على ما هو المراد عند إطلاقها على الممكنات

المقدمة الرابعة

يستعمل أهل السنة والجماعة لفظ ‘الكلام’ لله سبحانه وتعالى لمعنيين بطريق الإشتراك اللفظي أو الإشتراك المعنوي أو الحقيقة والمجاز

١. أحدهما: الصفة الحقيقية التي هي واحدة بسيطة قائمة بالذات ليس منفصلا عنه، وهذا هو الكلام النفسي

٢. والثاني: الكلام المنزل على الرسل الذي هو معجز متحدى به مركب من الحروف، وهذا هو الكلام اللفظي

وبما أن الأول واحد بسيط لا مجال للصدق والكذب فيه في حد ذاته فإنه ليس بإنشاء ولا خبر، وإنما يوصف تعلقاته بهذه الأوصاف

قال في شرح المواقف: ((كلامه تعالى واحدة عندنا لما مر فى القدرة، وأما انقسامه إلى الأمر والنهي والخبر والإستفهام والنداء فإنما هو بحسب التعلق، فذاك المعنى الواحد باعتبار تعلقه بشيء مخصوص يكون خبرا وباعتبار تعلقه بشيء آخر أو على وجه آخر يكون أمرا وكذا الحال فى البواقي)) انتهى

قال في شرح العقائد: ((إنه صفة واحدة تكثر بالنسبة إلى الأمر والنهي والخبر باختلاف التعلقات)) انتهى

وهذه العبارة موجودة في شرح الفقه الأكبر أيضا. قال فى المقاصد: ((المذهب أن كلامه الأزلي واحد يتكثر بحسب التعلق)) انتهى

قال فى المسامرة شرح المسايرة: ((إنما هي أنواع اعتبارية تحصل له بحسب تعلقه بالأشياء فذلك المعنى الواحد باعتبار تعلقه بشيء على وجه مخصوص يكون خبرا وباعتبار تعلقه بشيء آخر أو على وجه آخر يكون أمرا وكذا الحال فى البواقي)) انتهى

فثبت أن الكلام النفسي ليس خبرا ولا إنشاء في حد ذاته، فالصدق والكذب فيه لا يتصور، إنما جاء مجال الصدق والكذب بعد تعلقه بخبر ما

وقد اختلف علماء الكلام في أن هذا التعلق، هل هو حادث أو قديم؟ وسيأتي وجه التطبيق بين هذين القولون بإذنالله تعالى.

أما عبد الله بن سعيد بن القطان وأتباعه فيقولون إنه حادث، والجمهور على أنه قديم. قال في شرح العقائد: ((وإنما يصير أحد تلك الأقسام عند التعلقات وذلك فيما لا يزال وأما فى الأزل فلا انقسام أصلا)) وقال بعضهم في تفسيره: ((هذا مذهب بعض الأشاعرة)) انتهى

قال العلامة الجلبي: ((وهو عبد الله بن سعيد القطان وجماعة من المتقدمين، قالوا: إن كلامه تعالى صفة واحدة لا تعدد فيه أصلا، إنما العدد بحسب التعلقات الحادثة بحسب حدوث التعلقات)) انتهى

وفي مسلم الثبوت: ((إعلم أن الأشاعرة كلهم متفقون على أن كلامه فى الأزل واحدة لكن جمهورهم على أن ذلك الواحد باعتبار تعلقه بشيء على وجه مخصوص يكون خبرا وباعتبار تعلقه بشيء آخر وعلى وجه آخر يكون أمرا إلى غير ذلك فهو فى الأزل متصف بقسم من الأقسام بحسب التعلقات، وأما ابن سعيد فمع قوله بوحدته فى الأزل يقول إنه ليس متصفا بشيء من الأقسام فى الأزل وإنما يصير أحدها فيما لا يزال)) انتهى

وقال المحقق الدواني: ((فنقول: كلام الله تعالى هو الكلمات التي رتبها الله تعالى في علمه الأزلي بصفة الأزلية التي هي مبدأ تأليفها وترتيبها، وهذه الصفة قديمة وتلك الكلمات المرتبة أيضا بحسب وجودها العلمي أزلية…وليس كلام الله تعالى إلا ما رتبه الله تعالى بنفسه من غير واسطة والكلمات لا تعاقب بينها فى الوجود العلمي حتى يلزم حدوثها وإنما التعاقب بينها فى الوجود الخارجي، وهو بحسب هذا الوجود كلام لفظي، وهذا الوجه سالم عما يلزم المذاهب المنقولة إلخ)) انتهى

فعلى هذا، إنما يعتبر التعلقات قديمة بإعتبار وجودها فى العلم الأزلي القديم، أما باعتبار وجودها فى الخارج فهي حادثة

قال فى المسامرة وفي شرح الفقه الأكبر: ((والجواب أن إخبار الله تعالى لا يتصف أزلا بالماضي والحال والمستقبل…وإنما يتصف بذلك فيما لا يزال بحسب التعلقات، فيقال: قام بذات الله تعالى إخبار عن إرسال نوح مطلقا، وذلك الإخبار موجود أزلا باق أبدا، قبل الارسال كانت العبارة الدالة عليه إنا نرسل وبعد الإرسال إنا أرسلنا، فالتغير في لفظ الخبر لا فى الإخبار القائم بالذات، وهذا كما نقول في علمه تعالى أنه قائم بذاته تعالى أزلا العلم بأن نوحا مرسل وهذا العلم باق أبدا قبل وجوده علم أنه سيوجد ويرسل وبعد وجوده علم بذلك العلم أنه وجد وأرسل، والتغير فى المعلوم لا فى العلم كما مر فى الكلام على العلم والإرادة)) انتهى

فكلام الله تعالى – إذن – خال عن التعينات والتعلقات فى ما لم يزل، وإنما التبس ببعض التعينات فيما لا يزال بسبب تعلقات خاصة. وهذا كالعلم: العلم لا تغير فيه أصلا، إنما التغير فيما يتعلق به العلم أي: المعلوم، الذي وجوده العلمي قديم ووجوده الخارجي حادث

وقال مجدد الألف الثاني الإمام أحمد السرهندي: ((صفة العلم له تعالى صفة قديمة بسيطة حقيقية لا يتطرق إليها تعدد وتكثر أصلا ولو باعتبار تعدد التعلقات لأن هناك انكشاف واحد بسيط انكشفت به المعلومات الأزلية الأبدية وعلم به جميع الأشياء بأحوالها المتناسبة والمتضادة وكلياتها وجزئياتها مع الأوقات المخصوصة بكل واحد منها في آن واحد على وجه يعلم زيدا مثلا في ذلك الآن موجودا ومعدوما وجنينا وصبيا وشابا وشيخا وحيا وميتا وقائما وقاعدا ومستندا ومضطجعا وضاحكا وباكيا ومتلذذا ومتألما وعزيزا وذليلا وفى البرزخ وفى الحشر وفى الجنة وفى التلذذات فيكون تعدد التعلق أيضا مفقودا في ذلك الموطن فإن تعدد التعلقات يستدعي تعدد الآنات وتكثر الأزمنة وليس ثمة إلا آن واحد بسيط من الأزل إلى الأبد لا تعدد فيه أصلا إذ لا يجري عليه تعالى زمان ولا تقدم ولا تأخر فإذا أثبتنا لعلمه تعالى تعلقا بالمعلومات يكون ذلك تعلق واحد ويصير به متعلقا بجميع المعلومات وذلك التعلق أيضا مجهول الكيفية ومنزه عن المثال والكيف كصفة العلم)) المكتوبات، ج١ مكتوب: ٢٦٦

والإعتراضات التي وردت على قول عبد الله بن سعيد قد أجيب عنها في كتب الكلام كالمقاصد وغيره. قال بحر العلوم عن قول ابن القطان: ((وقد رأيت في كتب بعض المحدثين أنهم حكموا بكون هذا الرأي مختارا)) انتهى

وقد صرح كثير من محققي علماء الكلام أن تعلقات الصفات الحقيقية كالإرادة والقدرة حادثة. قال في شرح المواقف: ((فصفة العلم قديمة واحدة غير متناهية ذاتا بمعنى سلب التناهي وغير متناهية تعلقا بمعنى إثبات اللاتناهي في تعلقه بالفعل، والإرادة أيضا كذلك لكن تعلقها غير متناه بالقوة كما فى القدرة، على هذا فقس إلخ)) انتهى

قال في شرح المقاصد: ((وجوابها أن الكلام وإن كان أزليا لكن تعلقاته بالأشخاص والأفعال حادثة بإرادة من الله تعالى واختيار)) انتهى

والذي يهمنا في هذا الموضع إنما هو قولنا: أن الكلام النفسي الذي هو صفة حقيقية بسيطة متعال في حد ذاته عن الخبر والإنشاء، لا احتمال للكذب والصدق فيه، إنما جاء احتمال الإنشائية والخبرية بعد التباسه بالتعلقات العارضة والتعينات المتأخرة

على هذا: إذا قال أحدهم أن الكلام النفسي ممتنع الكذب إنما مراده أن الكذب غير متصور فى الكلام النفسي لبساطته ووحدته وعدم تعلقه في حد ذاته وعدم تصور المطابقة فيه للواقع وعدم المطابقة. وليس مرادهم أنه بعد تسليم الإمكان العقلي يمتنع الكذب فيه ذاتيا لأن الصدق فيه واجب وضروري، بل: الصدق فيه أيضا غير متصور. مثلا: إذا قال أحد أنه يشترط لتحقق الكذب كلام تام، ويمتنع الكذب فى المفردات المحضة، فمنشأ الامتناع هو عدم تصور الكذب، لا أن الصدق فيه واجب وضروري

وأما قولهم بأن الصدق في كلامه واجب فإنما مرادهم به ما يتعلق به الكلام النفسي، لا الكلام النفسي بالمعنى المذكور في حد ذاته. فالحاصل: وصف الكلام بالصدق منزلة نازلة وعدم اتصافه بالصدق والكذب منزلة قادمة

ثم: لفظ ‘الكلام النفسي’ مستعمل لمعنيين في كلام العلماء: أحدهما: مبدأ الكلام ومنشأه قائم بذات الواجب تعالى، قديم وأزلي، وهذا مثل الصفات الذاتية الأخرى كالعلم والقدرة والإرادة ونحو ذلك، فكما أن مبدء الإنكشاف هو صفة العلم ومبدء ظهور الأثر هو صفة القدرة، فكذلك مبدء التكلم هو الكلام النفسي، وكل من هذه الصفات قديم قائم بذات الواجب لا عين الذات ولا غيره؛ والثاني: مدلول الكلام اللفظي ومراده اللغوي أو الوضعي، وقد يطلق عليه لفظ: العلم

ومثال ذلك أن للإنسان مبدءا وقوة لتكلمه الخارجي، وإذا أراد أن يلفظ كلمات لتعبير معنى بذريعة تلك القوة فقد يوجد – قبل تكلمه – ذلك المعنى في علمه. فكل من المبدء والعلم موجودان قبل التكلم الخارجي

فالمعنى الأول للكلام النفسي قديم كجميع الصفات الحقيقية، والمعنى الثاني له إنما هو قديم باعتبار وجوده العلمي، فإن المعنى الأول يتوقف وجوده على صفة قديمة أزلية في ذات البارئ تعالى مسمى ب’الكلام’، والمعنى الثاني لا يتوقف على مثل هذه الصفة في حد ذاته. والكلام اللفظي يتوقف على كل من هذين المعنيين للكلام النفسي ويدل على كل منهما

فكما أنه يجب لتحقق الإنكشاف كل من العلم الحقيقي والمعلوم ولظهور الأثر كل من القدرة القديمة الحقيقية والمقدورات، فكذلك يتوقف الكلام اللفظي على الكلام النفسي بكلي معنيه: مبدء الكلام ومدلول اللفظ. وكما أن العلم يطلق على مبدء الإنكشاف الذي هو قديم في وجوده الخارجي وكذلك يطلق على المعلوم الذي من متعلقاته ما هو حادث في وجوده الخارجي، فكذلك الكلام النفسي الذي مبدؤه قديم من حيث وجوده الخارجي، وأما مدلول الألفاظ فوجوده الخارجي حادث وهو قديم باعتبار وجوده العلمي

قال المحقق الدواني في شرح العقائد الجلالي: ((إذا تمهد ذلك فنقول: كلام الله تعالى هو الكلمات التي رتبها الله تعالى في علمه الأزلي بصفته الأزلي الذي هو مبدء تأليفها وترتيبها، وهذه الصفة قديمة، وتلك الكلمات المرتبة أيضا بحسب وجودها العلمي أزلي، بل الكلمات والكلام مطلقا كسائر الممكنات أزلية بحسب وجودها العلمي، وليس كلام الله تعالى إلا ما رتبه الله تعالى بنفسه من غير واسطة، والكلمات لا تعاقب بينهما فى الوجود العلمي حتى يلزم حدوثها وإنما التعاقب بينهما فى الوجود الخارجي، وهو بحسب هذا الوجود كلام نفسي)) انتهى

فأشار بقوله: ((صفته الأزلي الذي هو مبدء تأليفها وترتيبها، وهذه الصفة قديمة)) إلى المعنى الأول للكلام النفسي، وأشار بقوله: ((إذا تمهد ذلك فنقول: كلام الله تعالى هو الكلمات التي رتبها الله تعالى في علمه الأزلي)) وبقوله: ((وليس كلام الله تعالى إلا ما رتبه الله تعالى بنفسه من غير واسطة)) إلى المعنى الثاني له. وقد أقر العلامة الشهاب الخفاجي كلام المحقق هذا في حاشيته على تفسير البيضاوي

وقال الدواني: ((مبدأ الكلام النفسي فينا صفة تمكن بها من نظم الحروف وترتيبها على ما ينطبق على المقصود، وهي صفة ضد الخرس مبدأ للكلام النفسي إلخ)) انتهى

وقال مولانا بحر العلوم في شرح سلم العلوم: ((إلا أنه يشكل بالكلام فإنه صفة قائمة قطعا من دون ارتياب، فيلزم استكمال الباري عز وجل سبحانه، لكن الحق غير خاف، فإن هناك أمرين: أحدهما به يقدر على تأليف الكلام ويقابله الخرس، والآخر صفة الكلام القائم ويقابله السكوت، فالأمر الأول صفة مكملة للذات وهو نفس ذاته، والصفة الأخرى متفرعة عن الأولى، وهي تابعة لها، واستحالة الاستكمال إنما هي فى الصفات الأولى الذاتية، فتأمل فيه فإنه موضع تأمل)) انتهى

وقال الإمام السرهندي: ((وكذلك كلامه تعالى واحد بسيط وهو تعالى متكلم بهذا الكلام الواحد فى الأزل إلى الأبد، فإن أمر أمرا فناش من هناك وإن نهيا فناش أيضا من هناك وإن إعلاما فمأخوذ أيضا من هناك وإن استعلاما فمن هناك وإن تمنيا فمستفادا من هناك وإن ترجيا فمن هناك أيضا)) المكتوب رقم ٢٦٦ من الجزء الأول للمكتوبات

وفى التلويح ما يدل على كون الكلام النفسي مبدء الكلام: ((وهي صفة قديمة منافية للسكوت والآفة ليست من جنس الحروف والأصوات، لا يختلف إلى الأمر والنهي والإخبار ولا يتعلق بالماضي والحال والاستقبال إلا بحسب التعلقات والإضافات، كالعلم والقدرة، وهذا الكلام اللفظي الحادث المؤلف من الأصوات والحروف القائمة بمحالها يسمى كلام الله تعالى والقرآن على معنى أنه عبارة عن ذلك المعنى القديم)) انتهى

قال العلامة الجلبي: ((قوله: عبارة عن ذلك المعنى القديم، قيل: معنى كونه عبارة عنه أنه دال عليه عقلا دلالة الأثر على المؤثر وعلى مبدئه، فإن النطق الظاهري فى الإنسان كما يدل على مبدء له، يغاير العلم والقدرة والإرادة كذلك الكلام اللفظي فى البارئ تعالى يدل على مبدء يغاير سائر الصفات)) انتهى

قال الملا خسرو في شرح التلويح: ((أقول: ليس معنى كونه عبارة عنه أنه عينه كما قال بعد هذا: أن القرآن عبارة عن هذا المؤلف المخصوص والنحو عبارة عن القواعد المخصوصة، وذلك ظاهر ولا أنه دال عليه بالوضع لأن المدلول الوضعي له هو المعاني الوضعية الحادثة، بل معناه أنه دال عليه عقلا، ودلالة الأثر على مبدئه فإن النطق الظاهر فى الإنسان كما يدل على مبدء له يغاير العلم والقدرة والإرادة كذلك فى الباري تعالى يدل الكلام اللغظي على مبدء له يغاير سائر الصفات)) انتهى

أما عن المعنى الثاني للكلام النفسي، قال في شرح المواقف: ((فإذن هو أي المعنى النفسي الذي يعبر عنه بصيغة الخبر صفة ثالثة)) انتهى

وقال في شرح المواقف: ((فإذن هو أي المعنى النفسي الذي يعبر عنه بصيغة الخبر صفة ثالثة)) انتهى

وقال الجلبي: ((ولا يخفى أن المفهوم من عامة كلماتهم هو أن النفسي مدلول اللفظي، وإن كان لا يخلو عن الإشكال)) انتهى

قال في شرح المقاصد: ((الوجه الثاني أن من يورد صيغة أمر أو نهي أو نداء أو إخبار أو استخبار أو غير ذلك سيجد في نفسه معاني ثم يعبر عنها بالألفاظ التي تسميها بالكلام الحسي، فالمعنى الذي يجده في نفسه ويدور في خلده ولا يختلف باختلاف العبارت بحسب الأوضاع والإصطلاحات ويقصد المتكلم حصوله في نفس السامع ليجري على موجبها هو الذي نسميه كلام النفس وحديثها)) وهذه عبارة صريحة في كون الكلام النفسي بمعناه الثانية

قال الإمام السرهندي: ((والقرآن كلام الله تعالى أنزل علي نبينا عليه وعلى آله الصلاة والسلام، متلبسا بلباس الحرف والصوت وأمر به عباده ونهاهم، فكما نحن نظهر كلامنا النفسي بتوسط الفم واللسان في لباس الحروف والأصوات نورد به مقاصدنا الخفية في منصة الظهور كذلك الحق سبحانه أظهر كلامه النفسي لعباده في لباس الحرف الصوت بقدرته الكاملة بلا توسط فم ولسان وأجلى أوامره ونواهيه الخفية في ضمن الحرف والصوت على منصة الظهور فكلا قسمي الكلام كلام الحق جل وعلا يعنى النفسي واللفظي)) انتهى

إنما هو المعنى الثاني للكلام النفسي الذي يلتبس بالصوت والحرف، كيف يتصور التباس المعنى الأول بالحرف والصوت؟ والمعنى الأول إنما هو سبب الإلتباس أو معطى الإلتباس لا ما يلتبس

في كتب الكلام: ((لأن كل من يأمر وينهى ويخبر يجد من نفسه معنى ثم يدل عليه بالعبارة أو الكتابة أو الإشارة )) وفى الشعر المشهور: ((إن الكلام لفى الفؤاد إلخ))، وقال سيدنا عمر رضي الله عنه: ((زورت في نفسي مقالة))، وقال أهل العرف: ((إن في نفسي كلاما أريد أن أذكره لك)). هذا كله ينطبق على المعنى الثاني للكلام النفسي

وقول بعض أهل السنة أن الكلام النفسي ضروري الصدق يدل على المعنى الثاني للكلام النفسي، فإن وصف الصدق لا يتأتى فى المعنى الأول للكلام النفسي – أي مبدء التكلم – وإنما يتحقق فى المعنى الثاني الذي هو مدلول الكلام اللفظي. وقول أهل السنة أن الكلام النفسي لا عين الذات ولا غيره يدل على المعنى الأول للكلام النفسي، فإنه بديهي أن مدلول اللفظ كالمعلومات مغاير ومنفصل عن الذات.

وبعد هذا التفصيل، ينكشف كثير مما أشكل على الناس. فمما اختلفوا فيه هو: هل دلالة الكلام اللفظي على الكلام النفسي: عقلي أو وضعي؟ فيظهر من التقرير السابق أن دلالته على المعنى الأول للكلام النفسي عقلي – دلالة الأثر على المؤثر – كما يدل أفعال الله تعالى على قدرته، ودلالته على المعنى الثاني منه وضعي

قال المولوي عبد الحكيم في حاشية العقايد الجلالي: ((فالكلام اللفظي دال على النفسي الذي هو المعاني دلالة الموضوع على الموضوع له وعلى مبدئه دلالة الأثر على المؤثر)) وهذه عبارة صريحة في إثبات التقرير السابق

فيجب على من دخل في هذا البحث أن يعين مراده من الكلام النفسي: أهو مبدء التكلم أو مدلول الكلام اللفظي؟

زعمت المعتزلة أنه لو اعتبر خبر الله تعالى أزليا للزم الكذب في خبره، فقال شارح المقاصد في جوابه: ((والجواب أن كلامه فى الأزل لا يتصف بالماضي والحال والإستقبال لعدم الزمان وإنما يتصف بذلك فيما لا يزال بحسب التعلقات وحدوث الأزمنة والأوقات)) ثم قال: ((وتحقيق هذا مع القول بأن الأزلي مدلول اللفظي عسير جدا، وكذا القول بأن المتصف بالمضي وغيره إنما هو اللفظ الحادث دون المعنى القديم)). وهنا أيضا لو استحضر هذا التفصيل بين المعنيين للكلام النفسي لصار العسر المذكور يسيرا، فإن الذي وصف الكلام اللفظي فقط بالمضي وغيره ونفاه عن الكلام النفسي فمراده المعنى الأول للكلام النفسي، ومعنى كونه مدلول اللفظ إنما هو مدلول عقلي لا وضعي. نعم، لو حمل على المدلول الوضعي لأشكل الأمر

وكذلك ينكشف كثير من المشكلات بالتفصيل المذكور كما لا يخفى على الماهر

وأما بالنسبة لتعلقات الكلام النفسي فقد كان فيها إجمال، والآن انجلى الأمر، فإن تعلقات الكلام النفسي بمعناه الأول تكون كتعلق العلم بالمعلومات وتعلق القدرة بالمقدورات، وأما بالمنعى الثاني فمتعلقات الكلام النفسي كتعلق المدلولات الوضعية بدلالاتها. وقد ظهر بهذا التفصيل وجه الإختلاف الذي وقع بين عبد الله بن سعيد وبين الجمهور، فإن عبد الله بن سعيد قال بحدوث التعلقات على المعنى الأول للكلام النفسي، والجمهور قالوا بقدم التعلقات على المعنى الثاني للكلام النفسي باعتبار وجودها فى العلم الأزلي. وهذا الطريق في بيان مذهب عبد الله بن سعيد أحسن وأخصر مما ذكر في مسلم الثبوت وشرح المواقف وشرح المقاصد

يظهر جليا أن كل ما قرر سابقا مستفاد ومأخوذ من كلام الأكابر والعلماء المعتبرين، فإن من عباراتهم ما تدل على المعنى الأول للكلام النفسي ومنها ما تدل على المعنى الثاني ومنها ما تدل على كلي المعنيين

قد يطلق صفة الدال على المدلول، كما فى المقاصد وغيره: ((وإجراء صفة الدال على المدلول شائع مثل سمعت هذا لمعنى وكتبته وقرأته))، وكذا يطلق ‘كلام الله’ على الكلام اللفظي كما يطلق على الكلام النفسي بمعنيه

يقال: ((سمعت علم زيد)) و: ((شاهدت فقه بكر)) و: ((رأيت سرور زيد)) وإنما المسموع والمشاهد أثر هذه الأمور لا أعيانها

لو قال أحد أن الكلام النفسي بمعنى مدلول اللفظ الوضعي صفة قديمة قائمة بنفس البارئ تعالى باعتبار وجوده الخارجي فهذا لا يصح، لأن مدلول اللفظ حادث باعتبار وجوده الخارجي

ومدلول اللفظ الوضعي إنما سمي ‘الكلام النفسي’ لأنه مدلول اللفظي كما أن الكلام النفسي الحقيقي القائم بذات الله تعالى مدلول اللفظ أيضا بدلالة عقلية لا وضعية، وبما أن هذه المدلولات لها وجود فى العلم بالأزل تسمى بهذا الإعتبار ‘الكلام النفسي’ أيضا

فيجب على الخصم أن يعينوا ما هو مرادهم ب’الكلام النفسي’ ثم بيان: هل امتناع الكذب فيه ذاتي أو لا؟ هل يدل الكلام اللفظي عليه بدلالة وضعية أو بدلالة عقلية؟ ومن أي وجه يجب انطباق الصدق والكذب بين النفسي واللفظي؟ ومن غير بيان هذه الأمور لا قيمة لزعمهم أن الكذب فى الكلام اللفظي محال لذاته بناء على كونه منطبقا على الكلام النفسي

[حذفت تلخيص المقدمة الخامسة فإنه ليس فيها كبير فائدة]

المقدمة السادسة

الصدق والكذب فى الكلام اللفظي مندرجان في صفات الأفعال، ولا يندرجان فى الصفات الذاتية الحقيقية، فكما أن الحكمة والعدل والعبث والسفه من صفات الأفعال فكذلك الصدق والكذب فى الكلام اللفظي من الصفات الفعلية عقلا ونقلا. وهذا لأن الصدق والكذب صفة الكلام اللفظي الذي هو حادث ومخلوق عند جمهور أهل السنة، وسيأتي تحقيقه [وهذا فى الباب الثاني من الكتاب الذي لم أتقدم بتلخيصه لطوله، تعرض فيه المصنف لقول القاضي عضد الإيجي فى المسألة وكلام غيره من المحققين]، وذهب الخصم كصاحب ‘تنزيه الرحمن’ إلى أن الكلام اللفظي قديم وقائم بذات البارئ، وإن سلم قدمه يجب أن تكون تعلقاته حادثة، وبما أن الصدق والكذب من تعلقاته الحادثة التي هي تحت قدرة الله تعالى لزم اندراجهما فى الصفات الفعلية

قال في شرح المواقف: ((يمتنع عليه الكذب اتفاقا، أما عند المعتزلة فلوجهين: الأول أنه أي الكذب فى الكلام الذي هو عندهم من قبيل الأفعال دون الصفات قبيح وهو سبحانه لا يفعل القبيح، وهو بناء على أصلهم في إثبات حكم العقل بحسن الأفعال وقبحها مقيسة إلى الله وستعرف بطلانه)) انتهى

والمعتزلة إنما يقولون بالكلام اللفظي، ولا يقولون بالكلام النفسي القائم بذات الله تعالى، فالكلام اللفظي عندنا أيضا من الصفات الفعلية

المقدمة السابعة

هناك فرق كبير بين القدرة على القبائح وصدور القبائح. صدور القبائح من الله تعالى محال عند أهل السنة والجماعة ولكن هي داخلة في قدرة الله تعالى كسائر الممكنات، ولا فساد في عدها مما يدخل في عموم قدرة الله تعالى، وإنما الفساد في صدورها، بل في نفيها من قدرة الله تعالى مخالفة لشمول قدرة الله لجميع الممكنات. ذكر في كتب العقائد: ((قدرته تعالى يعم سائر الممكنات)) و: ((كل ممكن مقدور)) انتهى

وفي صورة دخول القبائح – كالسفه والعبث الظلم بمعنى وضع الشيء في غير محله – في قدرة الله تعالى ليس فيها ما يقتضي امتناعا ذاتيا من الأسباب التي فصلت فى المقدمة الأولى، فكيف يخرج الأفعال القبيحة من قدرة الله تعالى؟ نعم، الأوصاف التي تقتضي انفكاك الذات عن نفسه أو عن لوازمه هي من المستحيلات ذاتا كالأكل والشرب وأمثالهما، وهي خارجة من القدرة القديمة

والحاصل: القول بشمول قدرة الله تعالى للقبائح وأن صدورها ممكن في نفسه هو مذهب أهل السنة، ولكن يمتنع صدورها بمانع خارجي فلا يتحقق أبدا

قال في شرح المطالع: ((فالمانع من صدوره عنه تعالى وهو عدم الداعية والإرادة إلى صدوره حاصل، لا أن القدرة عنه زايلة، فهو قادر على القبيح إلا أنه لم يصدر عنه بعدم إرادة منه إلى صدوره، لا أنه ليس بقادر عليه)) انتهى

ولا يقاس ضد العلم وضد القدرة أي: الحهل والعجز على الأفعال القبيحة كما هو ظاهر

وبالتالي: لا يوصف موصوف بصفة حتى يقوم تلك الصفة به حقيقة، حاء في كتب الكلام القول ب: ((ضرورة امتناع إثبات المشتق للشيء من غير قيام مأخذ الإشتقاق به))، فلا يوصف أحد بالكذب بمجرد قدرته عليه، وإلا لزم وصف الأنبياء والأولياء – نعوذ بالله تعالى – بالقبائح! ولزم وصف الكفار والفجار بالأفعال الحسنة

والآن – بإذن الله تعالى – نعين محل الخلاف بيننا – مؤيدي الشاه إسماعيل الشهيد عليه الرحمة في هذه المسألة – وبين المخالفين. كلنا متفقون على أن الله متكلم، أما كيفة تكلمه وحقيقته فهذا شيء آخر. وكلنا متفقون على أن عقد الكلام اللفظي وإصداره تحت قدرة الله تعالى. ولكن جاء فى القرن الثالث عشر جماعة من العلماء قالوا بأن عقد جملة مخالفة للواقع وتنزيله خارج عن قدرة الله القديمة، ففي حالة قيام زيد يقدر الله تعالى على تأليف جملة: ((زيد قائم)) وتنزيله، وأما في حالة قعوده، فتأليف مثل هذا الكلام وتنزيله خارج من قدرته، وليس ذات البارئ تعالى قادرا على أن يخبر بمثل هذا الكلام المخالف للواقع

وقال جماعة من العلماء – موافقة لأهل السنة والجماعة – أنه قادر مختار فى الحالتين، لكن لا يتحقق فيه إرادة الكذب أو الإخبار بما هو خلاف الواقع، فلا يقع أبدا. فلو تصورنا – على سبيل الفرض – أن آدم عليه السلام لم يأكل من الشجرة أو فرعون لم يدعى الربوبية، يكون عقد كلام: ((عصى آدم ربه)) وكلام: ((فقال أنا ربكم الأعلى)) وتنزيلهما في قدرة الله تعالى كما هو فى الواقع، إلا أن تحقق إصدار مثل هذا ممتنع لتمام صدقه تعالى وحكمته ومقتضى تقدسه ورحمته. كل ما وقع منه أو يقع ضروري الصدق، لو توقف أحد في تصديق شيئ من كلامه لاحتمال عدم الصدق فيه فهو زنديق وملحد وخارج من دائرة الإسلام

فالحاصل أن الجميع متفقون على وجوب الصدق وامتناع الكذب، وإنما اختلفوا في سببه، فجاء مولانا الشاه إسماعيل الدهلوي وأتباعه إلى أن وجوب الصدق وامتناع الكذب مبنيان على إرادة الله واختياره فإنه تعالى يلتزم الصدق ويحترز من الكذب، وجاء مخالفوهم إلى أنهما مبنيان على عدم القدرة على الكذب، فوجوب الصدق عندهم إنما هو لعجزه عن الكذب

والمستدل على كون الكذب فى الكلام اللفظي ممتنعا ذاتيا إما أن يستدل بالدلائل النقلية أو الدلائل العقلية. فلو استدل بالدلائل النقلية فمعلوم من المقدمة الأولى أن مجرد لفظ ‘الممتنع’ و’محال’ وأمثالهما غير كاف في إثبات ما يدعيه، فإنه يحتمل امتناعا غير ذاتي

ولو استدل بالدلائل العقلية فيجب عليه أن يبين وجه لزوم الكذب فى الكلام اللفظي لنقص في ذات الله تعالى أو صفاته الذاتية، ولو لم يتطرق دليله إلى هذا الأمر لا يتم استدلاله

وليس حكم النقص فى الصفات الذاتية مثل حكم النقص فى الصفات الفعلية كما سبق، ويجب أن يعين المخالف الذي يستدل على امتناع الكذب فى الكلام اللفظي ذاتيا بكونه منطبقا على الكلام النفسي، ما هو مراده بالكلام النفسي؟ وما وجه امتناع الكذب فيه؟ ويلاحظ اللبيب المنصف أن مع مراعاة جميع هذه الأمور يبطل أكثر ما يستدلون به

الباب الأول

يجب علينا أن نتبع فى الأمور الاعتقادية: الآيات القرآنية والأحاديث النبوية وإجماع الصحابة والأكابر، وببركة اتباعهم نجد أن العقل السليم موافق لكلامهم، ولا نرسل العقل كما أرسله المعتزلة محرفين لكلام الله والرسول صلى الله عليه وسلم والأكابر، فجعلوا العقل المجرد أصلا فى العقيدة وخاصة في باب الإلهيات وجعلوا النصوص تابعة لعقلهم. وأهل الحق جعلوا النصوص أصلا والعقل تابعا لها

فمثلا: يعلم من النصوص الصريحة من الكتاب والسنة وإجماع الصحابة أن الله وحده خالق الممكنات الموجودة كلها، حتى الشر، وزعمت المعتزلة اعراضا عن هذا الإجماع أنه يلزم من هذا القول عدم صحة تكليف العبد في أفعاله الإختيارية فإنه ليس خالقا لأفعاله، فجعلوا العبد خالقا لأفعاله الإختيارية، وقالوا بأنه يلزم من مخالفتهم وصف الله بعدم العدل والحكمة والرحمة، وقالوا: ((إن العبد لو لم يكن مختارا يقبح تكليفه)). فيأولون – بل يحرفون – كلام الله تعالى ويعرضون عن أقوال الصحابة وإجماعهم وأقوال السلف. واعتقادهم هذا يلزم كون العبد شريكا لله فى الخلق، ففروا – على زعهمهم – من مشكلة ودخلوا في مشكلة أكبر منها، وبتعبير آخر: فروا من المطر وقاموا تحت الميزاب. وجواب أهل السنة هو أن العبد يصح تكليفه فى الأمور الإختيارية بناء على دخل إرادته وكسبه فيها وإن لم يكن خالقا لها. قال فى المسايرة وغيرها: ((فالتحقيق أن عقابه إنما هو على مخالفته مختارا غير مجبور فإن تعلق الإرادة بالمعصية لم يوجبها منه ولم يسلب اختياره فيها ولم يجبره على فعلها)) انتهى

ومثال آخر أنه لا يجب على الله أن يثيب العبد المطيع ولا أن يعذب العبد المسيئ، فإنه هو المختار ويفعل ما يشاء، فيمكن له – في نفسه – أن يعذب المطيع ويثيب المسيئ، ولكن لا يفعل هذا بناء على كرمه وحكمته وصدقه وعدله. قال في شرح المقاصد: ((الثواب فضل من الله تعالى والعقاب عدل من غير وجوب عليه ولا استحقاق من عبد خلافا للمعتزلة إلا أن الخلف فى الوعد نقص لا يجوز أن ينسب إلى الله تعالى فيثيب المطيع البتة انجازا لوعده)) انتهى

والقول بخلافه يعارضه صريح النصوص من قوله تعالى: ((إن الله على كل شيء قدير)) و: ((لا يسئل عما يفعل وهم يسئلون)) و: ((خالق كل شيء)) و: ((يفعل ما يشاء)). ولا يلزم من دخول شيء في قدرة الله تعالى وقوعه. واستدل المعتزلة الذين يقولون بعدم دخول مثل هذا في قدرة الله بما قال في شرح المقاصد: ((الثالث الآيات والأحاديث الواردة في تحقيق الثواب والعقاب يوم الجزاء فلو لم يجب وجاز العدم لزم الخلف والكذب)) وأجاب فيه بقوله: ((ورد بأن غايته الوقوع البتة وهو لا يستلزم الوجوب على الله ولا استحقاق من العبد على ما هو المدعى))، فوعد الله وخبره إنما يدلان على وقوعه لا على كون خلافه غير مقدور له

وأهل السنة يقولون بعموم قدرة الله مع تنزهه من وقوع القبائح. لو دل قوله تعالى: ((إن الله على كل شيء قدير)) و: ((لا يسئل عما يفعل وهم يسئلون)) و: ((خالق كل شيء)) و: ((يفعل ما يشاء)) على عموم القدرة وشمولها للقبائح، فإنه دل قوله: ((وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما باطلا)) و: ((ربنا ما خلقت هذا باطلا)) و: ((وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما لاعبين)) و: ((أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا)) و: ((وما الله يريد ظلما للعباد)) و: ((إنه لا يحب الفساد)) على عدم تحققها منه

والمعتزلة المتبعون للنظام (النظامية) قالوا بعدم دخول القابئح – كالظلم والعبث والباطل والعبث – في قدرة الله، والمزدارية – فرقة أخرى من المعتزلة – على طرف آخر، قالوا بأنه لا مانع من وقوع مثل هذه القبائح فتحققها أيضا ممكن! وأهل السنة والجماعة متوسطون بين هذين الطرفين

والأنبياء المعصومون من المعاصي المحفوظون عنه قادرون على فعل المعاصي، وهذا يدل على كمال أفضليتهم، وإلا يجب كون الأشجار والأحجار أفضل منهم من هذا الوجه فإنها لا تقدر على فعل المعاصي أصلا! وهذا باطل البداهة. وكون خواص البشر أفضل من خواص الملائكة هو من هذا الوجه. ولو كان القدرة على القبائح سببا للنقص كما زعمت الخصم لينعكس الأمر. فالحاصل أن القدرة على القبائح من الكمال كما أن الاحتراز منها أيضا من الكمال والفضيلة. ونتيجة الأمر هو أن المعتزلة إنما يثبتون كمال عدل الله وينفون كمال قدرته، وأهل السنة يثبتون الكمال في كليهما. إنما زلت المعتزلة لأنهم لم يفرقوا بين القدرة على القبائح وبين صدورها منه. قال في شرح المواقف: ((وأيضا فالإجماع منعقد على أنهم أي الأنبياء مكلفون بترك الذنوب مثابون به ولو كان الذنب ممتنعا عنه لما كان الأمر كذلك إذ لا تكليف بترك الممتنع ولا ثواب عليه لما عرفت آنفا)) انتهى

والآن نلفت أنظارنا إلى المسألة التي نحن بصددها. فقول من قال بأن تأليف جملة تخالف الواقع وتنزيله على العباد إخبارا بما لا يطابق الواقع ليس تحت قدرة الله تعالى فهذا قول يخالفه العقل السلم، فإنه ليس فيه ما يقتضي الإمتناع الذاتي ولا يصير الممكن بالذات ممتنعا بالذات بمجرد العوارض والإضافات، وبالتالي قد ثبت شمول قدرة الله لجميع الممكنات. فالقائلون بعدم دخوله فى القدرة سلكوا مسلك المعتزلة في هذه المسألة، وخالفوا إجماع أهل السنة أنه لا يجب على الله شيء. وأهل السنة سلكوا مسلكا بين المزدارية القائلين بإمكان تحقق فعلية الكذب والنظامية القائلين بعدم دخوله في قدرة البارئ تعالى، فنفوا عن الله الجبر – العجز عن الإخبار بما يخالف الواقع – والنقصان أو القبح – فعلية الكذب، وسلكوا مسلكا متوسطا معتدلا

أما أدلة أهل السنة فهي النصوص القطعية الصريحة: ((إن الله على كل شيء قدير)) و: ((يفعل ما يريد)) و: ((خالق كل شيء)) و: ((فعال لما يريد)) انتهى

وعلماء الكلام المعتبرون أيدوا هذا المسلك بإدخالهم جميع الممكنات في قدرة الله تعالى. قال فى المقاصد وغيره: ((لأن المقتضي للقادرية هو الذات والمصحح للمقدورية هو الإمكان، ولا تمايز قبل الوجود يخصص البعض، والأولى التمسك بمثل: والله على كل شيء قدير)) انتهى

قال العلامة الدواني في شرح العقائد: ((ولا بد للمكن على تقدير وجود من الإنتهاء إلى الواجب، وقد ثبت أنه فاعل بالإختيار، فيكون قادرا عليه، لأن العجز عن البعض نقص وهو على الله تعالى محال مع أن النصوص ناطقة بعموم القدرة، كقوله تعالى: وهو على كل شيء قدير)) انتهى

قال في شرح المقاصد: ((فالأولى التمسك بالنصوص الدالة على شمول قدرته مثل: والله على كل شيء قدير)) انتهى

قال العلماء: ((واعلم أن المخالفين في هذا الأصل، أعني عموم قدرته تعالى للممكنات كلها – وهو أعظم الأصول – فرق متعددة))، وفي شرح المقاصد: ((ومنهم النظام وأتباعه القائلون بأنه لا يقدر على خلق الجهل والكذب والظلم وسائر القبائح، إذ لو كان خلقها مقدورا له لجاز صدوره عنه واللازم باطل لإفضائه إلى السفه إن كان عالما بقبح ذلك وباسغنائه عنه وإلى الجهل إن لم يكن عالما، والجواب: لا نسلم قبح شيء بالنسبة إليه تعالى، كيف وهو تصرف في ملكه، ولو سلم: فالقدرة عليه لا تنافي امتناع صدوره عنه نظرا إلى وجود الصارف وعدم الداعي وإن كان ممكنا في نفسه)) انتهى

ومعنى الظلم هنا ليس هو التصرف في ملك الغير والجهل ليس هو ضد العلم. لا ينبغي لقارئ هذه العبارة أن يفهم منه أن مثل هذا الظلم ومثل هذا الجهل في قدرة الله تعالى – والعياذ بالله. معنى الظلم هنا هو وضع الشيء في غير محله والجهل هو ضد الحكمة والحلم. والبيان فيما يلي

قال صاحب منهاج السنة: ((والقول الثاني أن الظلم مقدور والله تعالى منزه عنه وهذا قول الجمهور من المثبتين للقدرة ونفاته، وهو قول كثير من النظار المثبتة للقدر كالكرامية وغيرهم وكثير من أصحاب أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد وغيرهم وهو قول القاضي أبي حازم والاقاضي أبي يعلى وغيرهما، وهذا كتعذيب الإنسان بذنب غيره)) انتهى

قال العلامة الشهاب الخفاجي في تفسير قول الله تعالى: ((إن الله لا يظلم مثقال ذرة)): ((قال المحقق: هو لا يفعل الظلم لمنافاته الحكمة لا القدرة لأن الظاهر من قولنا: فلان لا يفعل كذا فى الأفعال التي هي اختيارية في نفسها أنه تركه باختياره، والقادر على الترك قادر على الفعل إلخ)) انتهى

فالظلم الذي يقع تحت قدرة الله عند الجمهور هو وضع الشيء في غير محله كما مثله بقوله: تعذيب الإنسان بذنب غيره

أما الظلم بمعنى التصرف في ملك الغير فلا يمكن بالنسبة إلى الله ذاتيا كما هو ظاهر جدا، فإن الله تعالى لا يخرج من ملكه شيء. قال المحقق الدواني في شرح العقائد: ((والظلم قد يقال على التصرف في ملك الغير وهذا المعنى محال في حقه تعالى لأن الكل ملكه فله التصرف فيه كما يشاء، وعلى وضع الشيء في غير موضعه، والله تعالى أحكم الحاكمين وأعلم العالمين وأقدر القادرين فكل ما وضعه في موضع يكون ذلك أحسن المواضع بالنسبة إليه وإن خفي وجه حسنه علينا))، فعلى المعنى الأول لا يتحقق محل الظلم بالنسبة إلى الله فيمتنع عقلا وذاتا، وعلى المعنى الثاني يتحقق محله فيمكن بالذات وإن امتنع بالغير

وورد لفظ الجهل بالمعنى المذكور فى التنزيل: ((قال: إنكم قوم تجهلون)) وقال: ((ولكني أراكم قوما تجهلون)) قال البيضاوي: ((تسفهون عليهم بأن تدعوهم أراذل)). وجاء فى الحديث: ((وإن جهل على أحدكم جاهل وهو صائم فليقل: إني صائم)). ومعنى الجهل هنا مثل الشتم والضرب والطعن. قال شراح الحديث: ((الجهل كما يطلق على مقابل العلم كذلك يطلق على مقابل الحلم)). قال الخفاجي في حاشية البيضاوي: ((فيكون الجهل بمعنى آخر وهو الجناية على الغير وفعل ما يشق عليه قولا أو فعلا، وهو معنى شائع كقوله: ألا لا يجهلن أحد علينا فنجهل فوق جهل الجاهلينا)) انتهى

أما شبهات النظامية فتندفع بقولنا: إن هذه الأشياء ممكنة بالذات وممتنعة بالغير

وبالتالي، قال علماء الأصول أن التخصيص في نص عام من نصوص الشريعة لو كان بطريق العقل يكون هو بمنزلة الإستثناء، فلا يصح التخصيص بعده بالقياس. قال فى التوضيح: ((فإن المخصص إذا كان هو العقل ونحوه فهو في حكم الإستثناء على ما يأتي ولا يورث شبهة إلخ)) قال فى التلويح: ((فإن كان المخصص هو العقل كان العام قطعيا فى الباقي لعدم مورث الشبهة إلخ))، فلما خرج من الآية ((خالق كل شيء)) ذات الله وصفاته بالبداهة وخرج من قوله: ((إن الله على كل شيء قدير)) الممتنعات بالذات كالأكل والشرب بالبداهة، بقي النص بعد هذا التخصيص على عمومه وقطعيته

فالكذب – كخلاف العدل – داخل في قدرة الله، فإنه داخل في عموم قول الله: ((إن الله على كل شيء قدير))، وهو ليس مثل الأكل والشرب كما سبق. فكما أن تعذيب المطيع داخل في قدرته تعالى ولكن يمتنع لمانع، فكذلك تأليف جملة تخالف الواقع داخل في قدرته وإن امتنع صدوره لمانع

قال في شرح المواقف: ((الرابعة النظام ومتبعوه قالوا: لا يقدر على الفعل القبيح، لأنه مع العلم بقبحه سفه ودونه جهل وكلاهما نقص ننزهه تعالى عنه، والجواب أنه لا قبح بالنسبة إليه فإن الكل ملكه فله أن يتصرف فيه على أي وجه أراد، وإن سلم قبح الفعل بالنسبة إليه فغايته عدم الفعل بوجود الصارف عنه وهو القبح وذلك لا ينفى القدرة عليه)) انتهى

فالقبائح التي أخرجتها المعتزلة من قدرة الله تعالى لا نسلم أولا كونها قبيحا بالنسبة إلى الله فإن القبح إنما يتحقق بالنسبة إلى منفعة العباد ومصلحتهم، وبسبب هذه المصلحة يحترز عنها الله تعالى اختيارا وإرادة لا جبرا وعجزا

والكذب وإظهار المعجزة على يد الكاذب سواء فى القبح كما فسره بعضهم. وقال في شرح المقاصد: ((ظهور المعجزة على يد الكاذب لأي غرض فرض وإن جاز عقلا على شمول قدرة الله، فهو ممتنع عادة معلوم الإنتفاء قطعا كما هو حكم سائر العاديات)) انتهى

قال في شرح الصحائف: ((قلت: إن فعل القبيح من غير حاجة محال، فإن أردت أنه محال لذاته فذلك غير مسلم لأنا نعلم ضرورة أن ذلك الفعل لا يقتضى عدمه لذاته، بل نعلم أن نسبة وجوده وعدمه إلى ذاته واحدة، وإن أردت أنه محال لأن الله تعالى قادر حكيم لا يريد أن يفعل مثل ذلك الفعل، فذلك مسلم، لكن ذلك لا يوجب انتفاء القدرة عليه، بل تركه بقدرته وإرادته)) انتهى

هذا نص صريح في إثبات دعوانا. قال في بعض الحواشي: ((قالوا: إن الخلف فى الوعيد لا يعد نقصا بل يعد كرما يمدح به الباري تعالى، بخلاف الخلف فى الوعد فإنه يعد نقصا يجب تنزيه الله تعالى عنه إذا الخلف بالكرم لا يليق بالكريم القادر عليه، والحق أن الخلف جائز عقلا مطلقا، لكنه غير واقع بالكتاب والسنة والإجماع)) انتهى

فالخلف جائز عقلا، والخلف من أفراد الكذب كما هو ظاهر. وقال صاحب منهاج السنة: ((اعلم أن الله تعالى لما قال في كتابه العظيم: إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها الآية، وقال الجمهور أن الظلم مقدور، فكان الجمهور قالوا: إن خلف الوعد جائز ممكن وإن كان الله لا يخلف وعده أبدا دائما لأنه حكيم كريم ورحمته غالبة على غضبه)) انتهى

قال فى المسامرة شرح المسايرة: ((إذ لا شك في أن سلب القدرة عما ذكر من الظلم والسفه والكذب هو مذهب المعتزلة وأما ثبوتها أي القدرة على ما ذكر ثم الإمتناع عن متعلقها اختيارا بمذهب أي فهو بمذهب الأشاعرة أليق منه بمذهب المعتزلة، ولا يخفى أن هذا الأليق أدخل فى التنزيه أيضا، إذا لا شك في أن الإمتناع عنها أي عن المذكورات من الظلم والسفه والكذب من باب التنزيهات عما لا يليق بجناب قدسه تعالى، فيسبر بالبناء المفعول، أي: يختبر العقل في أن أي الفصلين أبلغ فى التنزيه عن الفحشاء؟ أهو القدرة عليه أي على ما ذكر من الأمور الثلاثة مع الإمتناع أي امتناعه تعالى عنه مختارا لذلك لا الإمتناع أو الإمتناع عنه لعمد القدرة عليه، فيجب القول بأدخل القولين فى التنزيه وهو القول الأليق بمذهب الأشاعرة)) انتهى

هذه العبارة صريحة في إثبات الدعوى، بل يعتبر قول المخالفين مذهب المعتزلة، وأيد هذه العبارة فى التحرير وشرحه التقرير: ((وذكر فى المسايرة بطريق الإشارة فى الجملة أن الثاني أي أنه يقدر ولا يفعل قطعا أدخل فى التنزيه)) انتهى

قال القاضي عضد الدين في شرح مختصر الأصول: ((وقد يقال: إن امتناع الفعل لقيام صارف عن القبيح لا ينفى الإختيار)) ثم قال: ((الجواب عن الأول: لا نسلم امتناع إظهار المعجزة على يد الكاذب والكذب على الله تعالى امتناعا عقليا، وإن كنا نجزم بعدمه لأنهما من الممكنات وقدرته شاملة)) وهذا نص صريح في إثبات الدعوى

زعمت المعتزلة أنه لو لم يكن الحسن والقبح عقليين لما امتنع الكذب ولجاز إظهار المعجزة على يد الكاذب فلا يمكن إثبات النبوة، فأجاب عن هذه الشبهة في مسلم الثبوت هكذا: ((وقد يجاب بأنا لا نسلم امتناع الكذب على الله تعالى وامتناع إظهار المعجزة على يد الكاذب امتناعا عقليا لأنهما من الممكنات، وقدرته شاملة، ولو سلم الإمتناع فلا نسلم أن انتفاء القبح العقلي يستلزم انتفاؤه لجواز أن يمتنع لمدرك آخر وهو العادة، إذا لا يلزم من انتفاء دليل معين انتفاء العلم بالمدلول، ولا يخفى ضعفهما)) انتهى

أما قول المصنف بضعف الجوابين فليس مراده ضعف مضمونهما، بل مراده بضعفهما هو إيرادهما جوابا عن شبهة المعتزلة، والدليل على أن هذا هو المراد: تأييد صاحب المسلم القول بالإمكان الذاتي للكذب في موضع آخر من كتابه. قال في بحث التكليف: ((وأما الصوري بأن يتلفظ بصيغة الأمر ويقول: أوجد المحال، وآت باجتماع النقيضين فما هو إلا كقولك: إجتماع النقيضين واقع، وإنما قيل امتناعه لمدرك آخر لو تم لتم)). وبيان المراد بهذه العبارة كالتالي

قال بعض الأشاعرة: يمكن لله عز وجل تكليف العبد بما لا يطاق، وقال الماتريدية ومحققو الأشاعرة أنه ليس بممكن. ودليل القائلين بعدم إمكانه كما فسره صاحب المسلم أنه إذا كان الطلب من آمر حقيقيا – بأنه فى الحقيقة يريد تحقق ذلك المأمور به من المأمور – فيجب تصور وقوع هذا الأمر في ذهن الآمر، والممتنع بالذات غير متصور الوقوع للآمر العليم، فلا يأمر بمثله. فأجاب القائلون بإمكانه: لا يجب تصور الآمر تحقق وقوع المأمور به، إنما يجب التلفظ بمثل: أوجد المحال أو: آت باجمتاع النقيضين. فأجاب صاحب المسلم عن هذه الشبهة بما نقلنا عنه: ((وأما الصوري بأن يتلفظ بصيغة الأمر ويقول: أوجد المحال، وآت باجتماع النقيضين فما هو إلا كقولك: إجتماع النقيضين واقع، وإنما قيل امتناعه لمدرك آخر لو تم لتم)) أي: قولنا بعدم إمكان تكليف العبد ما لا يطاق مبني على كون الطلب طلبا حقيقيا، أما الطلب الصوري بأن لا يطلب الآمر فى الحقيقة تحقق ذلك المأمور به من المأمور فهو جائز بالذات، وما هو إلا كقول: ((إجتماع النقيضين واقع)) من غير اعتقاد حقيقة الكلام [وهو عين الكذب]. فالتلفظ بمثل هذا الكلام من غير اعتقاد حقيقته ممكن. فقال محشي مسلم الثبوت: ((فإن الإخبار حقيقة غير صحيح وإن كان التلفظ به صحيحا))، ولكن لا يليق مثل هذا التلفظ لأحكم الحاكمين، فقال: ((وإنما قيل امتناعه لمدرك آخر لو تم لتم))، وهذا المدرك الآخر هو تنزه الله عن السفه وما يخالف الصدق والعدل والحكمة

هذا، وقال في شرح المواقف: ((النظامية أصحاب إبراهيم بن سيار النظام وهو من شياطين القدرية، طالع كتب الفلاسفة، وخلط كلامه بكلام المعتزلة، قالوا: لا يقدر أن يفعل بعباده فى الدنيا ما لا صلاح لهم فيه، ولا يقدر أن يزيد فى الآخرة أو أن ينقص من ثواب وعقاب لأهل الجنة والنار، توهموا أن تنزيهه تعالى من الشرور والقابئح لا يكون إلا بسلب قدرته عليها، فهم في ذلك كمن هرب من المطر إلى الميزاب)) انتهى

قال في شرح المواقف: ((وأما العقاب ففيه بحثان: الأول: أوجب جميع المعتزلة والخوارج عقاب صاحب الكبيرة إذا مات بلا توبة ولم يجوزوا أن يعفو الله عنه بوجهين الأول: أنه تعالى أوعد بالعقاب على الكبائر وأخبر به أي بالعقاب عليها، فلو لم يعاقب على الكبيرة وعفا لزم الخلف في وعيده والكذب في خبره وإنه محال؛ والجواب: غايته وقوع العقاب فأين وجوب العقاب الذي كلامنا فيه إذ لا شبهة في أن عدم الوجوب مع الوقوع لا يستلزم خلفا ولا كذبا، لا يقال: إنه يستلزم حوازهما وهو أيضا محال لأنا نقول: استحالته ممنوعة، كيف وهما من الممكنات التي تشملهما قدرته تعالى))، وهذا نص صريح واضح

قال الأصفهاني في شرح الطوالع: ((وقال النظام أنه تعالى لا يقدر على خلق القبح لأن فعل القبيح محال والمحال غير مقدور، أما أن فعل القبيح محال فلأنه يدل على جهل الفاعل وحاجته وهما محالان على الله تعالى، والمؤدي إلى المحال محال، وأما أن المحال غير مقدور فلأن المقدور هو الذي يصح إيجاده وذلك يستدعي صحة الوجود، والممتنع ليس له صحة الوجود. وجوابه: أنه لا قبيح بالنسبة إلى الله تعالى، وإن سلم أن القبيح قبيح مطلقا ولكن المانع من فعله متحقق لا أن القدرة زائلة لأن القبيح حينئذ يكون محالا لغيره والمحال لغيره ممكن لذاته مقدور فكونه مقدورا لا ينافي كونه محالا لغيره)) انتهى

قال في طوالع الرومي: ((جوابه أنه لا قبيح بالنسبة إليه لأنه مالك الأمور كلها وإن سلم أن القبيح قبيح مطلقا وبالنسبة إليه أيضا فالمانع من صدوره عنه تعالى وهو عدم الداعية والإرادة إلى صدوره حاصل لا أن القدرة عنه زائلة، فهو قادر على القبيح إلا أنه لم يصدر عنه لعدم إرادة منه إلى صدوره لا أنه ليس بقادر عليه)) انتهى

قال في شرح التجريد للأصفهاني: ((وكلامه تعالى صادق لأن الكذب قبيح لا يجوز على الله تعالى لأنه حكيم والحكيم لا يصدر عنه القبيح))، فالاستحالة بسبب حكمته ولا يلزم من هذا عدم دخوله فى القدرة

والكذب وإن كان ممكنا في نفسه لكنه محال – لا محالة – بالغير. قال في شرح المقاصد: ((فإن قيل: التمسك بالكتاب والسنة يتوقف على العلم بصدق كلام الله تعالى وكلام الرسول عليه السلام ودلالة المعجزة وهذا لا يتأتى مع القوم بأنه خالق كل شيء حتى الشرور والقبائح وأنه لا يقبح منه التلبيس والتدليس والكذب وإظهار المعجزة على يد الكاذب ونحو ذلك مما يقدح في وجوب صدق كلامه وثبوت النبوة ودلالة المعجزات، قلنا: العلم بانتفاء تلك القوادح وإن كانت ممكنة في نفسها من العاديات الملحقة بالضروريات)) انتهى

قال فى المواقف: ((الرابع: لو لم يقبح من الكذب وإظهار المعجزة عند الكاذب لم تثبت النبوة، قلنا: ربما يمكن الشيء ويقطع بعدم وقوعه كسائر العاديات)) انتهى

قال في شرح المواقف: ((والجواب أن الإمكان العقلي لا ينافي الجزم بعدم الوقوع أصلا كسائر العاديات)) انتهى

قال فيه أيضا: ((والجواب أن مدرك امتناع الكذب منه تعالى عندنا ليس هو قبحه العقلي حتى يلزم من انتفاء قبحه أن لا يعلم امتناعه منه، إذ يجوز أن يكون له مدرك آخر وقد تقدم هذا في مباحث كونه تعالى متكلما ودلالة المعجزة على صدق المدعي عادية فلا يتوقف على امتناع الكذب كما في سائر العلوم العادية التي ليست نقائضها ممتنعة، فنحن نجزم بصدق من ظهرت المعجزة على يده مع أن كذبه ممكن في نفسه،فلا يلزم التباس)) انتهى

قال فيه أيضا: ((الخامس أنه لا يلزم من تصديق الله إياه صدقه إلا إذا علم استحالة الكذب على الله تعالى)) ثم أجاب: ((الجواب الإجمالي ما قررناه غير مرة أي مرارا من أن التجويزات العقلية لا ينافى العلم العادي كما فى المحسوسات)) انتهى

وهذه عبارات صريحة في إثبات دعوانا بحمد الله تعالى. ونقل أخيرا عبارة للمحقق الدواني للفائدة

قال المحقق الدواني في شرح العقائد في تأييد قول أهل السنة: ((ولا يجب عليه شيء)): ((لأن الواجب إما عبارة عما يستحق تاركه الذم كما قال بعض المعتزلة أو عما تركه مخل بالحكمة كما قاله بعض آخر أو ما قرر الله تعالى على نفسه أن يفعله ولا يتركه وإن كان تركه جائزا كما اختاره بعض الصوفية والمتكلمين كما يشعر به ظواهر الآيات والأحاديث مثل قوله تعالى ثم إن علينا حسابهم وقوله عليه السلام حاكيا عن الله يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي والأول باطل لأنه تعالى هو المالك على الإطلاق وله التصرف في ملكه كيف يشاء فلا يتوجه إليه الذم أصلا على فعل من الأفعال بل هو المحمود في كل أفعاله وكذا الثاني لا نسلم إجمالا بأن جميع أفعاله تتضمن الحكم والمصالح ولا يحيط علمنا بحكمته والمصلحة فيه على أن التزام رعاية الحكمة والمصلحة لا يجب عليه تعالى، لا يسئل عما يفعل وهم يسئلون، وكذا الثالث لأنه إن قيل بامتناع صدور خلافه عنه تعالى فهو ينافي ما صرح به في تعريفه من جواز الترك وإن لم يقل به فأين معنى الوجوب إذ حينئذ يكون محصله أن الله تعالى لا يتركه على طريق جري العادة وذلك ليس من الوجوب في شيء بل يكون إطلاق الوجوب مجرد اصطلاح)) انتهى كلامه

فانظر قوله: التزام رعاية الحكمة والمصلحة لا يجب عليه تعالى.

وأما الدلائل العقلية لإثبات دعوانا فهي كالتالي

١. يستطيع أكثر الناس تأليف كلام غير مطابق للواقع وإلقائه على المخاطب، فالقول بأن الله لا يقدر على مثل هذا يلزم القول بأن الإنسان أقدر من الله من هذا الوجه، وهو باطل بالبداهة. قاله الشيخ إسماعيل الشهيد في رده على العلامة فضل حق الخيرآبادي

٢. الكمال والفضيلة إنما في الاحتراز عن الشيء القبيح بالاختيار والإرادة لا عجزا وجبرا، وإلا يجب مدح الجامدات لانتفاء الكذب عنهم. قاله الشيخ إسماعيل الشهيد أيضا

٣. الصدق ليس عين ذات الله ولا من صفاته الذاتية الحقيقية، وليس فى القول بضده ما يقتضي سلب ذات الله عن حقيقته أو سلبه عن لوازمه

٤. الصدق والكذب من صفات الكلام اللفظي الذي هو مخلوق وحادث، وكل مخلوق مقدور لله تعالى، فالصدق والكذب إذن في قدرته. واتصاف المتكلم بالصدق والكذب إنما هو اتصاف إضافي، بل هو إضافة أمر إضافي! فإن الصدق والكذب ليسا من صفات الكلام نفسه، فكيف يكونان من صفات ذات المتكلم؟! الكلام إنما يكون صادقا أو كاذبا باعتبار مطابقته للواقع أو عدم مطابقته له، وهذا أمر إضافي. وبناء على هذا قد يكون كلام في حالة صدق ويكون نفس ذلك الكلام كذب في حالة أخرى. وإنما يوصف المتكلم بأنه صادق أو كاذب بسبب تلفظه مثل هذا الكلام

الباب الثاني

الباب الثاني من الكتاب طويل جدا، ولكن ألخص منه بعض مباحث مهمة

المبحث الأول

قال المحقق الدواني: ((قلت: الكذب نقص والنقص عليه تعالى محال فلا يكون من الممكنات ولا يشمله القدرة كما لا يشمل القدرة سائر وجوه النقص عليه تعالى كالجهل والعجز ونفي صفة الكلام وغيرها من الصفات الكمالية)) انتهى

هذا أصرح العبارات تفيد الخصم، وليس لهم عبارة أقوى منها، ولكن عندنا لا يذهب المحقق الدواني إلى الإمتناع الذاتي للكذب (كما هو ظاهر العبارة)، والبيان فيما يلي

ذكر في شرح العقائد الجلالي وفي شرح المواقف وغيرهما أن صاحب الكبيرة الذي مات قبل التوبة يجب على الله تعذيبه عند المعتزلة والخوارج ولا يقدر على العفو عنهم، وقال أهل السنة: ليس بواجب عليه، بل قد يتحقق العفو عنه فليس ممتنعا بالغير أيضا

فأجاب المعتزلة: قد أخبر الله في كثير من الآيات أنه يعذب صاحب الكبيرة، فيجب تعذيبه، وإلا يلزم الكذب والخلف في وعيده

وأجاب في شرح المواقف وشرح المقاصد وغيرهما عنه بأن استدلالهم هذا غايته وجوب وقوع العذاب لا وجوبه على الله تعالى وامتناع العفو على ما هو دعواهم، فإنه لا تلازم بين عدم الوجوب وعدم الفعلية

وزاد في شرح المواقف أنه بقي شبهة الخلف والكذب فإنه إذا قلنا بعدم وجوب العذاب سلمنا إمكان الكذب والخلف، فقال: ((نقول استحالتهما ممنوعة، كيف وهما من الممكنات التي يشملها قدرته تعالى)) انتهى

وقال المحقق الدواني عن قول شارح المواقف هذا: ((قلت: الكذب نقص والنقص عليه تعالى محال فلا يكون من الممكنات ولا يشمله قدرة الله تعالى كما لا يشمل القدرة سائر وجوه النقص عليه تعالى كالجهل والعجز ونفي صفة الكلام وغيرها من الصفات الكمالية)) انتهى

وقول المحقق هذا مبني على مشكلة في قول شارح المواقف، وهو أن أهل السنة لم يقل بإمكان العفو عن صاحب الكبيرة بالذات فقط، بل قالوا بإمكانه تحققا وفعلا أيضا، فقول شارح المواقف هذا يلزم منه – على قول أهل السنة – وقوع الكذب وصدوره عنه، وهو باطل قطعا، والقول بأن ((عدم الوجوب مع الوقوع لا يستلزم الخلف)) لا يستقيم على مذهب أهل السنة في مسألة العفو عن صاحب الكبيرة. فقد يتوهم قارئ كلام شارح المواقف أن كلامه: ((وهما من الممكنات التي يشملها قدرته تعالى)) هو فى الإمكان الوقوعي لا الإمكان الذاتي، بناء على مذهب أهل السنة فى المسألة، فرد عليه المحقق الدواني بقوله: ((فلا يكون من الممكنات ولا يشمله القدرة))، أي: فلا يكون وقوع الخلف والكذب وصدورهما عنه من الممكنات بالفعل، أما قوله: ((ولا يشمله القدرة)) فهو كلام ظاهره مشكل، ولنا أن نحمله على القدرة بمعنى التقدير والإرادة وإن كان هذا الحمل بعيدا. ويدل على كون هذا هو مراد الدواني ما قاله بعد هذه العبارة، وهو الجواب الصحيح عن إلزام المعتزلة: ((بل الوجه في الجواب ما أشرنا إليه سابقا من أن الوعد والوعيد مشروطتان بقيود وشروط معلومة من النصوص فيجوز التخلف بسبب انتفاء بعض تلك الشروط)) انتهى

والحق أن جواب الدواني وجواب شارح المواقف كليهما صحيح في موضعهما، فجواب شرح المواقف جواب إلزامي، أي: هذا غاية استدلالكم أنه يوجب وقوع العذاب لا عدم القدرة على العفو، وليس جوابه هذا مبنيا على قول أهل السنة فى المسألة، فمراده بالإمكان هو الإمكان الذاتي والمقدورية لا الإمكان الوقوعي، وأما قول المحقق الدواني فهو جواب تحقيقي ومبني على ما هو قول أهل السنة فى المسألة

قال في شرح المقاصد: ((الثالث: الآيات والأحاديث الواردة في تحقق الثواب والعقاب يوم الجزاء فلو لم يجب وجاز العدم لزم الخلف والكذب، ورد بأن غايته الوقوع البتة، وهو لا يستزلم الوجوب على الله والاستحقاق من العبد على ما هو المدعى، هذا والمذهب جواز الخلف فى الوعيد بأن لا يقع العذاب، وحينئذ يتأكد الإشكال)) انتهى

وتأكد الإشكال الذي ذكره هو لزوم وقوع الكذب والخلف وهما لا يجوز، فهذا هو الإشكال الذي أراد الدواني حله والجواب عنه. أما النقص الذي ذكره المحقق فهو النقص أو القبح فى الأفعال، وقد سبق أن القبح فى الأفعال ممكن بالذات وممتنع بالغير

المبحث الثاني

اعترض الخصم على الدليل الأول من الدلائل العقلية – وهو إلزام الخصم بالقول بأن الإنسان أقدر من الله – أنه يلزم على هذا الدليل القول بأن الله تعالى يقدر على الأكل والشرب إلخ فإن الإنسان يقدر عليها. والجواب عن هذا الإعتراض أن الأكل والشرب وأمثالهما من خواص الأجسام ومن لوازم الممكنات، وصدورها لا يتصور بغير الجسمية، فصدور مثل هذه الأفعال يلزم تغيرا كبيرا في ذات الله وصفاته الذاتية، وهذا ممتنع بالذات كما تقدم. وبالتالي: ليس فعل الأكل وغيره بالنسبة إلى الله مثل فعل الأكل وغيره بالنسبة إلى الخلق، فإن ذات البارئ تعالى ليس محلا للأكل والشرب وغيرهما، وليس في قدرة الخلق أيضا أن يجعلوا ما ليس بجسم آكلا شاربا. أما الكذب بالنسبة إلى الخالق وبالنسبة إلى الخلق فليس بينهما مخالفة، فإن الكلام اللفظي لا فرق في حقيقته بالنسبة إلى الخالق وبالنسبة إلى المخلوق. نعم، كيفية التكلم يخالف، ولكن لا يخالف حقيقة الكلام اللفظي. فعلى هذا يكون ما يتركب منه الكلام نفس الشيء: أي: حروف الهجاء والألفاظ الوضعية

قال العلامة الجلبي: ((إنا نعلم بالضرورة أن من علم شيئا أمكن له أن يخبر عنه لا على ما هو عليه))، وهذا يدل على أنه لا فرق بين حقيقة كلام الله اللفظي وحقيقة كلام الإنسان اللفظي، وإلا لما صح هذا القياس. ثم قال الجلبي: ((أجيب عنه بأن قوله من علم شيئا إلخ ممنوع ودعوى الضرورة غير مسموعة إذ ليس الكلام فى الصدق والكذب اللفظيين حتى يمكنه ذلك بل فى النفسانيين))، فهذا يدل على أنه لا فرق بين صدق الكلام اللفظي وكذبه بالنسبة إلى الخالق وبالنسبة إلى الخلق، وإنما الفرق فى الكلام النفسي

المبحث الثالث

اعترض الخصم على الدليل الثاني من الدلائل العقلية – وهو أنه إنما يصح التمدح على ترك الشيء القبيح إذا كان بالإختيار والإرادة – بأن الله يقول: ((لا تأخذه سنة ولا نوم)) وهذا بناء على عدم القدرة كما يتفق عليه الجميع. والجواب عنه أن الصفات السلبية إما هو فى الذات أو فى الصفات أو فى الأفعال، فالتمدح يصح فى القسمين الأولين بانتفاء القدرة من وجه لا فى القسم الثالث. قال أحد المحققين: ((الحق أن امتناع الشيء لا يمنع التمدح بنفيه إذا كان من صفات النقص، بل الإمتناع يدل على كمال المدح، فإنه إذا كان من المنفي من صفات النقص فكلما كان النفي أقوى كان التمدح أقوى)). وليس معنى هذا الكلام أنه يصح التمدح من الإنتفاء المحض مطلقا، بل إذا كان يدل على أمر آخر، أما في قوله: ((لا تأخذه سنة ولا نوم))، فالمدح فيه من جهة كون الله تعالى سميعا بصيرا في جميع الأحيان وكل الأزمان كما قاله الرازي في تفسيره، وإلا يجب مدح الجامدات بعدم السنة والنوم! قال الرازي: ((نقول: إن النفي يمتنع أن يكون سببا لحصول المدح والثناء وذلك لأن النفي المحض والعدم الصرف لا يكون موجبا للمدح والثناء والعلم به ضروري بل إذا كان النفي دليلا على حصول صفة))، وقال أيضا: ((إن تمدح الشيء بالشيء لا يصح إلا إذا كان صالحا لضده وقادرا عليه))، وهذا صريح في تأييد الدليل الذي اعترضوا عليه

المبحث الرابع

استدل الخصم على امتناع الكذب فى الكلام اللفظي بانطباقه على الكلام النفسي، وبما أن الصدق فيه واجب ضروري فهو واجب ضروري فى الكلام اللفظي. قد تقدم الإشارة إلى الجواب عن هذا الاستدلال، وهو أنه إن كان مرادهم بالكلام النفسي هنا الكلام القائم بذات الله تعالى فلا يصح انطباق الكلام اللفظي عليه من حيث الصدق والكذب فإنه لا يتصور الصدق والكذب فيه كما تقدم، وإن كان مرادهم به مدلولات اللفظ فيصح انطباق الكلام اللفظي عليه من حيث الصدق والكذب، ويصح أيضا قولهم بأن الكذب فيه ممتنع، ولكن لا دليل على كون هذا الإمتناع بسبب عدم دخوله فى القدرة كما هو دعواهم

————————————————

هذا آخر ما أردت تلخيصه من كتاب ‘جهد المقل’ للشيخ الإمام مولانا محمود حسن الديوبندي رحمه الله تعالى. ولم أستوعب جميع مباحث الكتاب اعراضا عن الإطالة، ولم أتعرض للباب الثالث من الكتاب لأنني لم أطلع عليه، ولم ألخص المباحث التي قمت بتلخيصها كما هو ينبغي وكما هو حقه لقلة بضاعتي فى اللغة العربية وفى العلوم الشرعية، ولكن أرجو أن يكون هذا العمل المتواضع كافيا في بيان مذهب علماء الديوبند في هذه المسألة المتنازعة فيها، والمؤلف الذي قمنا بلتخيص تأليفه هو أول خريج دار العلوم ديوبند على الإطلاق

* قاله في سياق الرد على الظن الفاسد الذي يتخيله بعض الناس بالنسبة للشفاعة عند الله من أنها ‘شفاعة الوجاهة’، أي: من الخلق من حصل على منزلة عند الله تعالى تجبره هذه المنزلة على قمع غضبه وغفران العاصي المشفوع له الذي يستحق العذاب في نفس الأمر، وهذا الإعتقاد عن الشفاعة لا يصح، فإنه لا غالب على أمر الله تعالى، فهذا هو سياق ذكره هذه الجملة

5 Responses to مسألة إمكان الكذب وموقف علماء ديوبند منها

  1. Ali says:

    I wonder if the barelwis will make takfir of all the scholars who “liked” this Facebook post (note how these are Aslein shuyukh and some are senior students of Shaykh Sa’id ‘Abd al-Latif Fawda and teachers at his institute in Jordan):

    https://facebook.com/10153016924212701

    Some names:

    Lu’ayy ‘Abd al-Ra’uf al-Khalili al-Hanafi
    ‘Uthman Mustafa al-Nabulusi
    Muhammad Akram Abu Ghawsh
    Muhammad al-Qudah
    Mutambay Rajab

  2. […] The Topic of Imkan al-Kidhb (مسألة إمكان الكذب وموقف علماء ديوبند منها) […]

  3. […] can find a detailed response to this in Juhd al-Muqill by Shaykh al-Hind (a summary can be found in this Arabic summary, under al-bāb al-thānī, al-mabḥath […]

Leave a comment